17‏/09‏/2012

أضواء على العصر 5


دعوني أطرح بعض الأسئلة عن حياتنا: 

- ما هو نوع التطوّر الذي حققناه اليوم؟ هل هو تطور تقني وحسب أم أنه امتدّ ليشمل نواح أخرى من حياة الإنسان ومجتمعه؟ هل استطاع الوصول إلى قلب الإنسان وإلى تركيبة المجتمعات بالتالي؟
- ألا تعتبر الجيوش الكثيرة بأسلحتها الفتاكة المرعبة دليلا لا يقبل الشك على تخلف إنسان العصر وهمجيته؟ أم أن ذلك شيء "طبيعي" ومرحلة لا بدّ منها؟
- ما الذي جعل المجتمع البشري يخطو كل هذه المسافات باتجاه الحريّة من سطوة الطبيعة والعمل وأرباب العمل بعد أن كان برسم العبودية لكل شيء ولكل أحد؟  أم أن افتراض هذا تفاؤل غير واقعي؟
- ما الذي غير الإنسان وجعل له هذه السّيطرة على العالم من حوله وفتح له آفاق العالم ليتعرف ويرى ويتواصل ولم يكتف بما وصل إليه بل ما زال يعد بالمزيد؟
- ما الذي حفّز على كل هذه التناقضات التي غيّرت سطح البحيرة الذي كان يبدو ساكناً فأصبح الإنسان يطرح الأسئلة الصّعبة؛ تلك التي لم يكن يجرؤ أحد على طرحها أو التفكير بها أصلا وبدأ يعيش جدياً ما كان مستحيلاً وخيالا علميا قبل خمس عقود أو أقل؟ هل هو الدين يا ترى؟ هل هي السّياسة التي جعلت كل ذلك ممكنا؟

للإجابة على هذه التساؤلات سيكون علينا أن نسمّي الأشياء بمسمياتها؛ فلم يتعدّ دور الدّين دور الضابط الاجتماعي الذي يحافظ على نماذج معينة من المؤسّسات الصّغيرة كالأسرة ودار العبادة ويحثّ على شكل معين من أشكال السّلوك الإنساني كالصّبر والخضوع، ويدعو إلى الخوف من الله وملائكته والقبول التام لكل ما يقوله ولاة الأمر على اختلافهم واختلاف الناس عليهم، مقدماً في ذلك الكثير من المواساة المعنوية للإنسان المغلوب على أمره في هذا العالم المتحرك والمتغير بجد، آخذاً بعين الاعتبارأن الحرية حمل ثقيل على الفرد وأنه سيحاول الفرار منها بالتأكيد لأنها تضعه أمام مسؤوليات عظيمة، تضعه أمام نفسه.

بالمقابل ماذا فعلت السياسة في هذا المجال وهل ساهمت حقاً في إحداث هذه التغييرات؟ وما الذي يملكه السياسيون من العلم والمعرفة بهذا العالم وبالمجتمع ليجعلهم يملكون السلطة؛ سلطة سجن الناس واعتقالهم، وتنفيذ الأحكام ومنها الإعدام بمن يخالف المنظومة، سلطة طبع المال والتحكم بحياة ملايين الناس وبسعادتهم وغناهم وفقرهم وحياتهم إلى هذا الحد؟ ما الذي عملته السياسة وما الذي بناه الساسة؟
 الجواب سهل، لم يبنوا شيئاً ذا قيمة! إنهم يعملون كواجهة قوية لنظام جائر يتحكم بخير الأرض ويبقي الحروب مستعرة ويفصل الناس في قطعان سلسة الإنقياد.

وماذا فعل العلم؟ وماذا فعلت التكنولوجيا صديقة الإنسان الأحدث وبنت عقله وتفكيره وخلاصة علمه وتجربته؟ أليست هي المسؤولة الأولى ويعود إليها الفضل في إنجازات اليوم؟ ألن يكون عليها أن تحمل الإنسان إلى المرحلة التالية. ننظر اليوم إلى الأمور حولنا من الباص إلى الطائرة والقطار والقلم والطاولة والنظارات الطبية والإبرة ونعتبرها مسلمات وننسى كم عانت البشرية قبل أن تُخترع هذه الوسائل بالتكنولوجيا وحدها، باسلوب البحث العلمي وليس بالدين ولا بالسياسة أو الأحلام.

التقدم التقني الذي يشهده كوكبنا مؤخراً  بدأ بتحرير الإنسان من العمل عن طريق مواصلة اختراع آلات جديدة بإمكانها أن تعفي الإنسان من الأعمال الصعبة و الروتينية التي تجعل منه غبياً متاجراً به عُرضة للسّوق وقوانينه اللا-إنسانية. وحررته افتراضيا من عبودية طال أمدها واختلفت أساليبها للطبقات الحاكمة فقد أثرت أجهزة الاتصال وخاصة الانترنت على إلغاء الفروقات الوهميّة بين طبقات المجتمعات الإنسانية وسهّلت الطريق أمام الناس ليعرفوا دقائق حياة بعضهم والمشاكل التي تواجههم مما أدى إلى إحساس متزايد في جميع أنحاء العالم بأن الإنسان كائن واحد وأن محاولات أدلجته وتقسيمه هي محاولات رذيلة مقصود منها السّيطرة والرّبح في نهاية المطاف. كما لم يعد الصّحافي هو كلب القبيلة الوحيد الذي ينذر بالأخطار، لقد بدأوا يتأكدون أن كل الدماء حمراء وكل الناس تشعر بالبرد في الشتاء ولذلك بدأت الثورة الاجتماعية على نحو واسع ولذلك علينا دعمها وعدم الحيادية في هذا.

مع نجاح التكنولوجيا هذا فقد استمر التخلف المعرفي والاستلاب الأعمى لمحطات التلفزة وسادت أنماط استهلاكية مؤذية في عالم يموت فيه حوالي 30 مليون إنسان كل عام من الجوع والأمراض المعدية. ولم يكد التقدم التكنولوجي يؤثر حقاً على الإنسان كجوهر فاعل، وذلك لغلبة هياكل الرّبح والسّيطرة وانسفال البشر إلى مستوى رعايا ومستهلكين أعزاء، بدلاً من ارتقائهم إلى مستوات أعلى وإحساسهم بالمسؤولية تجاه موارد الكوكب وتجاه بعضهم وأنفسهم.

ولذلك أقول أن الحل ليس في تبديل الرؤساء بغيرهم، وليس في الأسلحة والثورات المسلحة، وليس في التنظير من وراء شاشات الكومبيوتر أيضاً ولكنه في تفعيل المجتمع البشري وثورة الإنسان على كل ما يستعبده ويذله ويقيده ويجعل منه تابعاً غبياً عليه الخضوع والاستكانة له بمختلف الأشكال. فالثورة على الاستبداد والأنظمة الاستخباراتية يجب أن تترافق بثورة موازية على الأسلحة التي تقتلنا عند السياسيين والجيوش من كل الأطراف، والأسلحة التي تستهدف أطفالنا في المحطات اللامسؤولة التي تبث الفرقة والتقسيم كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم على مدار السنة، وهي تسوق بكل لا-مسؤولية لكائن بشري مريض ومليء بالعقد والأمراض لسبب هام وهو أن يحافظوا على خططهم في السيطرة وأن تبقى الثورة المدنية قليلة الفاعلية وغير ذات جدوى بما يتعلق بالـتأثير على المجتمع بحق. وماذا عن الثورة على الأسلحة التي يستعملها الاقتصاديون من عقوبات وسرقات واحتكاروديون واقتصاد مفتوح وتضخّم وإبقاء الناس تحت العبودية، بالإضافة إلى الأسلحة التي تستهدف العقول والنفوس على قنوات الإعلام التي تخفي الحقائق وتقضي على الفكر النقدي وتشيع ثقافة الاستهلاك والاستلاب وتدمير الإنسانية على ألسن بعض رجال الدين وأصحاب الغايات الرديئة.


لا يستطيع رجال الدين أو السياسة (وإن حاولوا بصدق) حلّ المشكلات الاجتماعية كالحريّة الفردية والجريمة والبطالة والسرقة والشلل التقني والتصحر في الأرض والعقول، والملل والرتابة وإيقاف الحروب وفض النزعات وكل ما يتعلق بمساوئ النظام الإقتصادي الحالي لأنهم ببساطة لم يدربوا يوماً على ذلك. فما يفعله الدين هو محاولة شق طريق نحو الله بعيداً عن الأرض ودنسها ونجاستها، وتقديم المواساة المعنوية لمن يحتاجها، وغاية ما يفعله السياسي هو وضع الميزانيات والسيطرة على المجتمع وإعلان الحروب!!

وكما أن "الجوهرجي" هو من يعرف الماس من البلور، كذلك الباحث الإجتماعي وأي مراقب يعتمد البحث العلمي أسلوباً هو من يعرف مدى السّوء الذي وصلت إليه حياتنا كبشرفي هذا العصر الذي توسمه العبودية وتميزه الحروب والمجاعات!!

علينا إذن أن نبحث عن جذور المشكلة بدلا من المزيد من القوانين التي يصنعها رجال الدين والسياسة؛ وبدلا من الانصياع الأعمى والترديد الببغاوي لأفكار القوم وما أكثر الأفكار وأما أكثرها شبهاً ببعضها وابتعاداً عما نحتاج.

سيكون علينا التوجه نحو الإنسان؛ نحو بعضنا من جديد لنكمل الرحلة بالاتجاه الصحيح، الاتجاه غير المؤطر، وغير المقونن، وغير المحدّد. سيكون علينا التوجه إلى أنفسنا من جديد وليس إلى السّياسيين ولا إلى رجال الأديان المختلفين على تفاسير ما قال الله هنا وما قال النبي هناك. السّاسة رجال مصالح وليسوا رجال أخلاق وإذا كنت ما زلت لا تعرف ذلك فأنت في ورطة كبيرة. ورجال الدين بشر مثلنا محدودون بمعارفهم وبأنفسهم في نهاية المطاف وإذا كنت لا تعرف ذلك فأنت معرّض لخطر الموت.

سيكون علينا التركيز على ما نستطيع فعله نحن كمجتمع مدني بعيداً عن السياسة والسياسيين، والعمل على تقويض سلطاتهم المطلقة، وإسقاط هذه القداسة التي تغلف وجودهم الزائف، والكفّ عن الانخداع بالتلفاز والصحف والاعتماد بدلاً عن أخبارهم على شبكة تواصل مكونة منا نحن وليس من أصحاب المصالح أنفسهم. في عالمنا لا نحتاج سياسيين يديرون لنا الأمور ولكننا نحتاج علماء وخبراء اجتماعيون وتقنيون... في عالمنا لا نحتاج الجهلة ومعميي القلوب ليقودوا مركبنا الحسّاس.
  

سيكون علينا اعتبار البشر كل البشر مجتمعنا الذي نهتم به فلا يمكن أن نقع في فخّ الدول التي رسمها السّياسيون على خرائطهم الباردة. علينا أن نؤمن بالتغيير الذي يغير هيكلية المؤسّسات بأجمعها ونؤمن بقدرتنا على فعل ذلك، لأننا نستطيع. وبما أننا نسعى لبناء مجتمع أفضل من جميع النواحي وحياة مستدامة تليق بالإنسان وكرامة الإنسان سيتوجب علينا أن نكون مقتنعين ومؤمنين ومطبقين للسلميّة التامة في كامل نشاطاتنا. هذا إذا أردنا التحرر حقاً وبناء أوطان حقيقية صالحة للتنفس.

وسيكون علينا التوجه الصّادق لدراسة موارد كوكبنا / منطقتنا بشكل جدّي، والعمل بناء على النتائج فلا نسأل كم يكلف هذا المشروع ولكن هل لدينا الموارد؟ لأننا ندير المجتمع حاليا بالعكس بسبب هياكل الربح التي شلت التكنولوجيا وأدت إلى تراجع الإنسان والمجتمع والحضارة والديمقراطية لمن يفكر كثيراً في الديمقراطية. ما هوَ المال إلا أداة مدروسة لتقييدنا وليس لمصلحتنا، أداة لضبط المجتمع والسّيطرة عليه كما هو الحال الآن... فنحن نرزح تحت رحمة احتلال حقيقي لمدننا ومشاعرنا وإراداتنا، نحن نعيش في ندرةٍ مصطنعة، وفي تضخم للعملة مدروس وفي كنف ورعاية أكبر مصنعي الخراب والأسلحة والأمراض في العالم.. فل نتوقع منهم الخير؟ أم نبحث عن مسلك آخر ونقرأ بوادرهُ تلتمع في كل مدن العالم التي تغص بالكائنات البشرية الطامحة للتغيير؟ وتذكر... إذ نفعل ذلك نحن لا نقوم ببناء شيء جديد، لا نفرض قانوناً جديداً، ولا نحدث تغييراً في بنية المجتمع... إننا نتماشى مع التغيير الطبيعي في المجتمع والذي هو شيء من أمور الحياة نفسها. في الماضي كان الإنسان يعيش على الجمع والالتقاط ويعيش في الكهوف، ثم تطور البشر في عصر الزراعة، ثم تطوروا مرة أخرى في الثورة الصناعية وما حملته من تغييرات أثرت عميقاً في شخصية الإنسان وقدراته وإمكانياته. وهكذا، فإن هذه العملية لن تتوقف عن شيء ثابت، ولن نتوقف عن اكتشاف الأفضل والنضج أكثر. ولمن يقول أن هذا وهم وأن هذا مجرد خيالات أنتجها عقل منظرٍ، أقول أن التنظير هو الإصرار على ملاحقة شبح الديمقراطية في عالم لا تتوفر فيه أدنى مقومات الديمقراطية! التنظير هو في محاولة التقاط بعض أنفاس الحرية في عالم مبني رأساً على عقب ونحن نعرف الفاعلين ونعرف طريقة البحث، فلماذا لا نمشي بالاتجاه الصحيح؟ ومتى كانت الطرق القصيرة والسهلة هي الصّحيحة دائماً؟

الأمر عائد إلينا، إما أن نرضى بما يجري من خداع أو أن نحاول جهدنا ولا نعطي بالاً لفلاسفة السقوط والرضوخ ونهتم حقاً بهذا المجتمع. هكذا أستطيع الآن تلخيص الآمر.

                                                                                                                            قد يتبع يوماً ما :)
مراجع للبحث والتوسع:

-   جاك فريسكو مخطط ومهندس اجتماعي.
- "الخروج من الطائفة" للباحث الدكتور علي الديري.
- "فن الحب" و "أن نملك أو نكون" للمحلل النفسي والاجتماعي أريك فروم.
- كريشنا مورتي / الكثير من المقاطع المصوّرة والمكتوبة متوفرة على النت.
- "الهروب من الحرية" أريك فروم.

للمراجعة أيضاً أنصح بالتالي:
- روح العصر Zeitgeist  فيلم وثائقي من ثلاث أجزاء.
- الازدهار The Thrive متوفر على النت بنسخة مدبلجة للعربي.
- اعترافات قاتل اقتصادي كتاب من تأليف John Parkins
- Modern Money Mechanics كتاب في كيفية صنع المال والقوانين الظابطة له.

أضواء على العصر 4

إنسان اليوم عدواني، أناني، متوحش، متعصب، جاهل، عرقي، طائفي، قصير النظر، متلاعب فيه وسهل الانقياد، ولا يفهم شيئاً عن نفسه ولا عالمه ولا مجتمعه، ومع هذا فهو مدّع كبير أجوف كالطبل! وبنى مجتمعه على هذه الأسس دون إدراك التغيير الذي طرأ على الزمان فأثر على كل ما حوله، ودون أن يدرك أن مقاوم هذا التغيير والمتمسك بالأمس هو المصارع الأزلي للريح الهائجة! لأن حركة التغيير هي الحقيقة الأكثرحدوثاً وصدقاً وثباتاً فيما نعرفه عن هذا الكون الخفي. إنه دائم الحركة، دائم التغيرالحتمي.

لا الدّين (بفهمه الحالي) ولا السيّاسة (بكامل مؤسّساتها المتداعية)استطاعا أن يقدما للإنسان شيئا يسهّل له سبل حياته أو يدفعه باتجاه أحلامه القديمة الأصيلة بالحرية. بل على العكس لطالما كان الدّين عائقاً حقيقياً بوجه التقدم عندما خرج من إطاره الزمني البيئي كشيء حدث في تاريخ الإنسان وأثر وتأثر بالناس الموجودين حينها، وتحوّل إلى أداة قمع تمارس مؤسّساتها الإكراه وتنشر التسليم بالقناعات الثابتة التي من شأنها أن تجعل العقل يتوقف ويصبح آله للحفظ والتخزين وحسب، ونحن نعلم أن الإنسان لا يحتاج للحفظ كحاجته للتفكير النقدي وتحليل ما يرى والشك الدائم والبحث الدائم في سبل تحسين حياته وعالمه وأفكاره. ولذلك لدينا مخطوطات وكتب وكمبيوترات تتميز بذاكرة غير منتهية. بالإضافة لما سبق فإن الفهم الرّاهن للدّين مسؤول إلى حد كبير أيضاً عن الكثير من الحروب اللاإنسانية والمضنية عبر التاريخ القديم والحديث، وليس مستبعداً أن تكون حروب المستقبل ذات صبغة دينية أبداً حيث يتم إعداد الناس للبقاء على نفس المستوى الإدراكي والمعرفي الضحل ويحال دائما بينهم وبين الانفتاح على بعضهم بالكثير من الطرق. فمحطات التلفزة المموَّلة من قبل النخبة المتحكمة لا تتوقف عن بث التحريض والتجييش والتقسيم الطبقي والقومي والدّيني في قلوب المشاهدين المستلبين - وما أكثرهم - وإبقاء المجتمع كما هو يخدم هؤلاء النخب ويجعل الأمور تحت السّيطرة.

سيطِر على أجهزة الإعلام، ورسخ الفكر القومي (دول، أعلام، مونديالات... إلخ)، وشجِّع التطويف (تقوقع كل مجموعة ضمن قطيع طائفي يحدّ من قدراتهم) قسِّم الناس وعلمهم أن لا يسامحوا بعضهم على اختلافاتهم، واستمرّ بنشر الأكاذيب والخدع عن الدّيمقراطية وحقوق الإنسان والعالم الآخر، وحوّل هذه المجتمعات إلى عبيد مسلوبي الإرداة والحرية والتفكير، خربهم واستعبدهم بالمال والمؤسسات القضائية والبوليسية والمدارس، واكسر إرادتهم وعلمهم الخضوع. افعل هذا وسيتبعونك وستبقى ملكاً عليهم، حاكماً أمور حياتهم ممسكاً بكل الثروات مقدسٌ لا يطالك الشك ولا المساءلة. وهذا ينطبق على الأنظمة جميعاً الملكيّ منها والدّيمقراطي والجمهوريّ والشيوعي والاشتراكي.. إلخ. فما كل هذا التنوع السياسي الذي نشهده في أنظمة الحكم إلا مجرّد أقنعة وكذبات تستند على هذا الجهل الجمعي لقطعان من الكائنات البرَّاقة الأعين التائقة للحريّة السَّهلة والآمنة.
 ألم يؤن الأوان لنرى كل هذا الخداع الذي تنطوي عليه هذه القصة نفسها وفي عمق جوهرها؟

أضواء على العصر 3

هل لدى الدين القدرة على تغيير المجتمعات والمُضي بها نحو الحرّيات العامة والخاصّة ومزيداً من النضج؟ وهل يستطيع رجل الدّين فعل ذلك؟

 إذ نفكر بالجواب فإن أول ما تتبادر إلى أذهاننا الكثير من الحقائق المقدّسة التي تربينا عليها وزرعت فينا بالعادة والتكرار وغالباً بالإيمان اللاعقلاني المستند على التصفيق، والتصديق، وعدم الشك، ورفض العقل والمحاكمة العقلية والمحاكاة المنطقية، والتي كان من شأنها يوماً أن تجعل منا بشراً سويين مبدعين مختلفين!

ويأتي الجواب من صميم التجربة الإنسانية فالدّين هو مجموعة من الطقوس المستندة على مثيولوجيات أخرجت من حركة الزمن وتم تحنيطها لتصبح من القداسة بحيث تتفوق على الإنسان نفسه، وهي بالتالي من الممكن أن تصيب الشخصية بشلل وعجز وعزلة كلية سببه الابتعاد عن التواصل الحقيقي مع النفس والمحيط، وتراجع الحب المبني على النضج والاستقلالية والاحترام بعيداً عن السّادية والمازوخية وغيرها من الأنماط الملتوية للحبّ والإيمان وانعدام التفكير العقلاني والمنطقي والغرق في تفاصيل ميثيولوجية تحرِّف الأخلاق لصالح النصوص المقدسة وتقيد الحرية لصالح تفاسيرمعينة سبغت عليها القداسة. كمٌّ هائل من القوانين والتشريعات والتعليمات وما عليك إلا التسليم بها بلا لم ولا كيف لتكون مؤمنا في الكثير من الأحيان، وهنا تكمن المشكلة القصوى في إخراج الإنسان من محور الاهتمام وتحويله إلى تابع ليس عليه أن يفهم بقدر ما عليه أن يطيع. وهو بهذا ينبذ أهم ملكة من ملكات الإنسان وهي العقل، ويتخلى عن إنسانيته بتحوله إلى إمعة. إلى شخص تابع مردد عديم القيمة.


وعليه فأنا أستبعد أن تكون للدّين (بفهمه الحالي وطقوسه الرّاهنة) أدنى قدرة على مواكبة العصر بما يحمل من تغييرات بنيوية أصابت الفرد كنتيجة حتمية للنموّ وتغيُّر الزمن، والتقدم التقني الذي نشهده اليوم. إذ رُصِّعَ إنسان العصر بقيم جديدة أخذت تتصارع مع تلك القديمة التي ألفها مسبّبة تغييرات واضطرابات جذرية في الشخصية الاجتماعية، ضاربة عرض الحائط بكل ما هو يقيني وثابت، معرّضة للشك حتى أثبت الأشياء وأكثرها تصديقا في رواية الدين والموروث الاجتماعي، واضعة الإنسان وجها لوجه أمام أسوأ كوابيسه وأعنفها وأخطرها على الإطلاق؛ العزلة.

الحقيقة أن إنسان اليوم مؤمن بقيم الحريّة التي يراها في الأفلام أو يقرأ عنها في الكتب والمجلات، وهو بالفعل قد بدأ يفضل تلك التكنولوجيا التي يرى آثارها حوله، إلا أن المشكلة العويصة هي أن هذا الإيمان لا يعدو عن كونه إيمانا لا عقلانياً طفليا (فتلك هي الطريقة الشائعة أصلا) وهي نوع من الإيمان الذي يسمح لصاحبه بأن يؤمن بالأشياء دون الخوض في تفاصيلها ودون دراسة وتحليل معطياتها، كل ما عليه القيام به هو أن يومئ براسه ويكرّس تشابهه مع الرهط قدر الإمكان، ويحفظ بعض الكلمات ليصبح بوقاً يضاف إلى ملايين الأبواق الأخرى التي تمرّر الكثير من الألحان الناشزة التي لا يعرف أحد عنها شيئاً. وهذا ينطبق على الدّين، وعلى السّياسة، والتنبؤ بالطقس، والعادات والتقاليد، والعلوم، والآداب، والحكم والفلسفة. إنها علاقة البئر بالبترول كما وصفها أريك فروم في كتابه أن "نملك أو نكون" To Have or To Be. يروق لي هذا التشبيه كثيراً :) ولا حاجة لذكر أن هذا  النمط من الأشخاص شائع جداً في مجتمعاتنا مع الأسف.

نرجع للتناقض القائم بين الفكر الديني-السّياسي والمنظومة التي يعتمدها في النظر إلى الأشياء، وبين الحرية التي سهلتالتكنولوجيا سبيلها على أكثر من وجه. معروف أن الحرية والتكنولوجيا ليستا وليدتا الفكر الديني ولا الفكر السّياسي، حيث أنه لا يستطيع أن يفكر بالحرية إلا المتخلص من قيود التشريع -وهذا واقع. ولا يقدر على صنع الطائرات ألا من تلقى تدريبا على ذلك. 

لا يستطيع رجل الدين أو السياسة أن يقوم بذلك حتى لو كانا صادقين، ببساطة لأنهما لم يدربا على هذا النوع من التفكير ومن التقنية. 

ويجد الفرد نفسه مضطراً لكبت مشاعره بخصوص هذا التناقض الجليّ ويميل للإيمان بهما معاً وبشكل يدعو للحيرة. فالدّين مرجع غير قابل للشك والحرّية حق (على ما يبدو) ولا يريد التفريط به والتكنولوجيا خلاصة أجيال من الشكاكين والمرتابين بكل شيء. 

الفكر الديني-السّياسي لا يتسطيع دعم الحرية لتناقضها الظاهر مع جوهر الأديان الذي هو تسليم النفس والبدن في طاعة الإله وأولي الأمر والكتب المقدسة ورفض مبدأ الشك الذي هو أساس الفلسفة والتفكير العقلي الرّياضي المنطقي الذي صنع التكنولوجيا وأرسى دعائم المنطق كعلم. مما يجعله (والكلام هنا عن الفكر الديني-السياسي) متناقضاً مع أبسط مبادئ الحريّة الفردية وأداة غير ذات فائدة بيد التقنين.

ومن جهة أخرى لم يقدم الدّين (بشكله الحالي وفهمه الرّاهن على الأقل)  للإنسان سوى الحروب والتقسيم والوهم. تماماً كما فعلت السياسة! في الوقت الذي كانت فيه فروع العلم والفن والفلسفة تحفر عميقاً في النفس البشرية وقوانين الفيزياء وعلوم النفس والمجتمع حاملة معها البشر إلى حقبة جديدة كلياً تقينياً وإدراكياً، لأنه كلما ازدادت الأشياء التي تعرفها عن هذا العالم كلما أصبحت في حاجة أقل إلى القواعد الثابتة والعكس صحيح؛ كلما ازدادت القواعد الثابتة في حياتك كلما قلت معرفتك بما يدور حقيقة في هذا العالم.

أضواء على العصر 2


لطالما كانت دراسة الدّين وأثره ودوره، والإنسان وسلوكه وتطبّعه، والتكنولوجيا وما تفعله دراسات ضرورية وماسة إذا أردنا أن نبني فهماً عميقاً للتجربة الإنسانية.

ولا فرق هنا بين ما يسمى بـ"الدول" "النامية" كالوطن العربي وفيما يسمّى ب"الدول" "المتحضّرة"على حد سواء. فإنسان اليوم أصبحَ أكثر وأكثر كتلة من التعقيدات التي تحتاج إلى فهم عميق ودراسة دقيقة ومواكبة حثيثة. ولكننا وبسبب الشلل النقدي والافتقار إلى التحليل، والعجز المادي المتوارث تعوّدنا أن لا نذهب لطبيب الأسنان حتى يصل الألم إلى عتبة لا تحتمل ويقلقنا طوال الليل ويكون قد فات الأوان على الإصلاح غير المكلف وغير الموجع وندخل في دوامة الألم بإرادتنا وتكاسلنا وخوفنا وغبائنا. 

المشكلة بالأصل ليست بيننا كبشر أو كـ "مواطنين" ننتمي لتيارات دينية وفكرية مختلفة فهكذا نحن منذ بدء الخلق وسنبقى مختلفين بأشكال عديدة حتى نهاية العالم (إذا كان ثمة نهاية)، ولكن المشكلة بالأصل بيننا من جهة وبين المؤسّسات العاملة بمنهجية على تقسيمنا وإفراغنا من مضاميننا الإنسانية والزجّ بنا على دولاب العبودية كالفئران!  المشكلة الوحيدة التي نلام عليها حقا هي تقصيرنا في خلق فرص للتواصل أكثر من وراء ظهر السّياسيين، وفي قدرتنا على تجاوز هذه الهياكل الاجتماعية المشلولة التي نصادفها في مواقع المجتمع والسّياسة لنصبح مجتمعاً قرر الخروج إلى المدينة كما يقول الدكتور الزيدي في كتابه الرائع "خارج الطائفة" ومن المدينة إلى فضاء الإنسانية الأوسع والأكثر نضجاً.


مشكلتنا ليست بين دين وآخر وطائفة وأخرى فنحن ناضجين كفاية لنستطيع التعايش ولم يكن  "البوط العسكري" هو السبب في احترامنا لبعضنا يوماً، بل إن ذلك نابع من إدراكنا أننا بالنهاية جسد واحد لم يخلق سدى ولا يمكن أن يعتبر أي من أعضائه غير ذي قيمة! والأهم من ذلك إنك لا تستيطع أن تتكلم عن كرامة ابن حمص السّنيّ مثلاً دون كرامة ابن حمص العلوي أو الشيعي أو الملحد، ودون الكلام عن كرامة ابن حلب أيضاً وهلمّ جراً.  لأن جميع الدماء حمراء، وعندما تنتمي للمدينة التي هي الفضاء الأوسع تخرج تلقائياً من الطائفة أو القبيلة الضيقة المحدودة، وفي المدينة ترى الإنسانية وجها لوجه، على أنها المجتمع الحقيقي الذي عليك الانخراط به والتفاعل مع حركته. وبنفس الواقع لا تستطيع أن تتكلم عن الفقراء وتقول مثلاً "فقراء المسيحيّين" لأن ذلك لا يمكن أن يكون حقيقياً ولا منطقياً أبداً، إنه شيء غير ذي قيمة ولا يجلب سوى مزيداً من الغباء والتخلف والسّيطرة بالمقابل. فالروابط الكثيرة التي بيننا أكثر بكثير من الاختلافات البسيطة التي تميزنا وهذا ما لا يتم التكلم عنه في الإعلام لأنه لا يمكن أن يخدم أولئك في رأس الهرم (وهم وموجودون في جميع الطوائف والدول والأعراق).

ما أتكلم عنه هنا ليس مشكلة أديان تماماً، ليس مشكلة مثيولوجيات أو أفكار مجرّدة ولكنها بالضبط مشكلة أفراد جاهزة للعبودية لأي سلطة تطرأ ومتقبلة دائماً لسياسات يتم استخدام الأديان فيها للتأثير على الناس مسلوبي الإرداة مسبقاً من أجل تمرير سياسات معينة والمحافظة على المجتمع على وضعه وخموله وتقسمه وتشرذمه مصارعين كل ما من شأنه أن يولد حركة ما لأن الحركة من طبع الحياة، وإذا دبّت الحياة بالناس ورأوا جمال الإنسانية في وجوههم، سيكسرون قيودهم ويبدؤون بالتقارب والتواصل غير عابئين بالسّياسيّن ورجال الأديان المتطرّفين، محققين السّعادة الحقيقية  في توحّدهم.

ونعود إلى الاعتقاد القديم البائد أن رجل الدّين لديه كل الأجوبة وأنه ممثل الآلهة المقدّسة على الأرض المدنّسة! وهو اعتقاد مضحك مردّه قصورٌ شخصي وعجز نسبي في شخصية التابع أو الشخص الذي يشعر بالانقياد لأي جهة كانت دينية أو حزبية أو ثقافية أو فنية إلى ما هنالك. وما أود فعلا الإشارة إليه هو أنَّ هذا الفرد يضع نفسه برسم العبودية لكل أحد ولكل فكرة ولكل استلاب هو جاهز للعبودية للفكرة ونقيضها ويعتمد خياره على أي الفكرتين كانت الأسبق، أو ربما على أيّ منهما ترافقت مع دعاية ناجحة واستطاعت أن تلمس التجاويف المتعبة لرأسه المُرهق. وهو على فكرة لا يكاد يتابع تفاصيل الدّين أو الحزب السّياسي الذي يدّعي "اتباعه" والولاء المطلق له، ولا يكاد يفهم شيئا من تفاصيله ودقائقه، بل يردد ليل نهار ما حفظه من طقوس أو أقوال مأثورة تتطور لتصبح عادات وشعارات رنانة بعيدة كل البعد عن الحركة المترافقة مع أي إيمان حقيقي. إنه السّلوك المحرَّف والوعي المُخترَق. وهذا ما يجب النظر إليه؛ الشخص نفسه وليس الرّئيس أو زعيم الحزب الذي يحكم، وليس إلى الشيخ المتطرف الذي يكفر هذا وذاك، أبداً، بل إلى عيني هذا الإنسان المرهق وقلبه الصغير.


وهنا يتبادر إلى ذهني السؤال التالي: هل لدى الدين القدرة على تغيير المجتمعات والمُضي بها نحو الحرّيات العامة والخاصّة ومزيداً من النضج؟ وهل يستطيع رجل الدّين فعل ذلك؟ هل درّب على ذلك في الأصل؟

أضواء على العصر 1

قد يبدوالموضوع الذي سأتناوله في هذا البحث غريباً وبعيداً عن السّياق في هذا الوقت، حيث الثورات تذرع دول العالم محدثة التغييرمسببة بإيجاد مفاهيم مختلفة للحريّة والديقراطيّة. فمن الطبيعي والمنطقي - على رأي الأكثريّة - أن نتكلم عن الثورة والثوار والحريّة والأحرار والقتل والدّمار ونخرس عما سوى ذلك. ولكني في الواقع أرى أنّ ذلك ليس كافيا أبداً، إذ كثيراً ما يغيبُ عن أذهاننا أننا نتكلم عن التغيير الحقيقيّ وأنّ الشقّ الاجتماعي منه هوالحجرُ الأساس لنصرة الثورة وإيقاف العنف ويحقق بناء حياة إنسانية صحيحة ومُستدامة، فيما تبقى التغييرات السّياسية السّطحية التي لا تطال العمق مجرّد تغييرات في موازين القوى إذا لم تترافق مع حركة اجتماعية تعنى بالإنسان كجوهرعظيم، وبحياة الإنسان ككائن يستحق التقدير والاحترام والحياة الكريمة والحرية الحقيقية.

ما أحاول قولهُ هنا أنّ الحريّة لا يمكن أن تُختزل وتُقزّم وتتحوّل إلى حريّة اختيار شخص من بين عدّة أشخاص موافق عليهم أصلا من قبل مجموعة من المتنفذين وأصحاب المصالح، وهو الشكل الذائع الصيت للحرية التي يطالب بها الناس محتذين المثال الهوليودي المزخرف والكاذب. "هذه ليست حرية ولا ديمقراطية ولكنها حرية اختيار الدكتاتور في أحسن الأحوال" (كما قال لي صديقي وابن خالي أسامة ذات يوم). ليست الحرية في التنقل بين أناس سرعان ما يفسدهم نمط السّلطة والاقتصاد السّائد والحتمي، ولا يمكن أن تتأتى باستبدال الزّعماء الحاليين بآخرين، ولا تعني حتى أن توصل مرشّحك "الرائع والنزيه" إلى سدّة الحكم أو الوزارة أو البلدية!! الموضوع يحتاج إلى قليل من البحث للوقوف على أسباب هذا الفساد وليس الهروب غير العقلاني في حين يستمر النظام باستعباد الناس وسرقتهم كل شيء بما في ذلك تحطيم احترامهم لأنفسهم وتشويه نظرتهم الموضوعيّة. وكل ذلك يحصل بمنهجية بالغة الدقة وبجهل تراكمي يصعب شرح انتقادي له ناهيك عن التأثير فيه.

ولكي نعي كل ذلك بالشكل الصّحيح ونستطيع رؤية الفساد الحتمي للسلطة والانهيار الواضح للأخلاق والمبادئ وتحكم النخبة في أمور الناس، لكي ندرك ذلك وغيره يتوجب علينا المبادرة بكثير من الشجاعة والخروج عن المألوف، كل مألوف من تفكير ومعتقدات وإيديولوجيات وعادات وتقاليد لنخرج إلى فضاء الإنسانية الرّحب. يلزمنا طريقة تفكير وطريقة عمل مختلفة، ونقد دقيق للطريقة التي يبني من خلالها البشر مجتمعاتهم، والأسلوب الذي يسيِّرعالمهم والطريقة التي تضبط علاقاتهم مع بعضهم ومع الطبيعة ومع حكومات افترضوا ضرورة وجودها، وسيكون علينا أيضاً تفحص ومعرفة ما يعلموه لأولادهم في المدارس على أنه العلم ومعنى الحياة. تلزمنا بعدها شجاعة الاعتراف بأن الفضيلة شيء غير متوفر الآن ولا يمكن توفيره بمجرد الانشراح على أصوات مذيعي الأخبار وهم يتحدثون عن الديمقراطية والحرية.

الربح والسّيطرة هي ما يقود عربة هذا العالم المتداعي وليس الأخلاق ولا الفضيلة. على المرء أن يبادر ويتعلم الشجاعة ويتوقف عن الولاء للأفكار الحالية والمعتقدات الحالية للزّعماء الدينيين والاجتماعيين والسّياسيين وفلاسفة السّقوط. عليه أن يتوقف في الحال عن تبجيلهم و تصديقهم والتوقف عن الاستلاب المقيت لكلامهم وأوهامهم العقيمة التي لم تفعل سوى زيادة الضّرر وتقسيم الناس وخلق الندرة والتي كان من شأنها الحروب المستمرة، والدّمار المحتم، والجوع الأبدي، والابتعاد الحتمي عن الدّيمقراطية التي يصبح الكلام عنها "إهانة لذكائنا واستخفاف بقدرتنا على رؤية الأشياء" كما يقول John Parkins  في اعترافاته الشهيرة، ثم الالتفاف على المجتمع المدني وسلبه حرياته من ناحية، و زيادة الأرباح للماسكين بزمام الأمور والمختبئين خلف ابتسامات الرؤساء والسّياسيين، مقسّمي الدّول ومموّلي الحروب، وأصحاب شركات السلاح والأدوية ومصانع الطاقة. يعني زيادة أرباح ونفوذ وتسلط مسبّبي الشلل أنفسهم، أولئك الذين يستعبدوننا ويخربون المجتمع المحطم على وقع أطمعاعهم وشهوتهم للسيطرة.

وبسبب عدم وضوح العلاقة بين الدّين والدولة وأهميتها، وأثر كليهما على الإنسان، وتقصير الكتّاب والدارسين في الكتابة عن هذا الموضوع خوفاً أو استخفافاً أو ربما لعدم توفر قناعة جديّة في أهميّة العمل الاجتماعي بعد طغيان العمل السّياسي الفارغ على السّاحات. وبسبب من الأهمية الكبرى لما يمكن أن ينجم عن دراسة هذه العلاقة من نتائج هامة وأثرها على حركة المجتمع وتجدّده ونموّه أو جموده وانغلاقه وبالتالي على طبيعة أبنائه وبناته، وحدود قدرتهم على الخلق والابتكار، ومدى عقلانية ما قد يبدر عنهم من قرارات في أمور الحياة المختلفة. بسبب كل ذلك كان لا بدّ لي من الكلام عن هذه العلاقة المركبة بين الإنسان والدين والدولة وتأثير كل هذا بالتكنولوجيا وتأثره بها.
 أنْ تناقش الدّين وعلاقته بالانسان والدّولة يعني أن تنظر إلى البيئة لتدرس تأثيرها على الفرد وعلى نموّه سلباً أو إيجاباً للوصول إلى ما يجعله يتصرّف على هذا النحو أو ذاك وهو ما ينعكس على  المجتمع أو "الدولة" وهي الشكل المؤسّساتي للسّيطرة السّياسية كما أن الأسرة أو العائلة هي المؤسّسة الأصغر للسّيطرة الاجتماعية. وكل هذا لا يدل على انسجام وحرية بقدر ما يعبّر عن الخديعة التي يعيشها سكان هذا الكوكب في هذه الفترة من عمر الأرض، خديعة أنهم مفصولون ومرتّبون على الرّفوف في طبقات تبدأ بالأُسر وما تحويه من تطويع إجباري لعقلية الفرد وغرس المفاهيم المختلفة في رأسه وعقله منذ الصّغر وهو الأمر البالغ الخطورة على الإنسان في مستقبل أيامه، إلى الطبقة الاجتماعية وما تحويه من عُقد من قبيل متعلمين وجهلة أذكياء وأغبياء أغنياء وفقراء وهلم جراً من التصنيفات المريضة وغير العادلة، إلى القبيلة والعرق واللون، إلى الدّولة بتناقضاتها الكثيرة بمؤيديها ومعارضيها وأحزابها المختلفة، إلى الطائفة ولا عقلانية الانتماء إليها، حيث لا أحد يختار أن يولد يهوديا أو مُسلما أو سوريا أو هنديا أو أبيضاً أو أسوداً ولكنه يتعرّف على كل ذلك في سنيّه الأولى وتغرس المفاهيم والمعتقتدات والوطنيات في رأسه بحيث لا يستطيع لها دفعاً فيما بعد لأنها بلغت من التجذر مبلغاً مكنها من صبغ شخصيته الكلية بصبغتها وفي هذا مخالفة لأبسط مفاهيم الحرية والعدل. وفي اعتبارها "طبيعية" أكبر مغالطة قد يقع فيها الإنسان.

على ضوء التقسيمات السّابقة، وفي ظلّ ارتفاع المزيد من الأصوات في عالمنا العربي منادية بـ "الحرّيات" و"الدّيمقراطية" وإسقاط الأنظمة، وبسبب صعوبة المرحلة الحاليّة يتمّ الانزلاق دون انتباه وعن غير قصد في غالب الأحيان إلى الخطاب الدّيني والطائفي والعرقي والقومي، وتنحصر الطلبات وتتقلص لتصحوَ فينا المشاكل القديمة التي كانت مسؤولة عن تخلفنا إلى حدّ كبير، وننسى فجأة في غمرة عاطفتنا أن مشكلتنا ليست مع بعضنا أبداً ولكنها مع أنظمة قمعيّة مستبدّة لطالما سكتنا عن جرائمها وسرقتها وزودناها بالقوة (بخنوعنا الدائم) والمال (بالضرائب والبدائل الكثيرة التي ندفعها) والسّلطة المطلقة (بعدم متابعتنا وانتقادنا لها) ممّا أدّى إلى تضخّمها إلى الحدّ غير المقبول الذي نراه الآن! فالسُّلطة المطلقة تُفسد أي حكومة أو حاكم... إنها تفسد كل إنسان بالتأكيد.

سوريا والعالم..

ولدتُ في سوريا يوماً ما، في مثل هذا اليوم من عام 1985، كان أبي "معلم بلاط" وأمي ربة منزل متدينة تحب الناس، أبي عامل البلاط أثر على تكوين نظرتي لسوريا في بداية حياتي كما ساهم بتكوين وجهة نظري عن الدين أيضاً. كانت سوريا بالنسبة لي حينها أجمل بلد في العالم حيث الأرض الثرية والناس الطيبون حيث أهلي وناسي وكان لدى أبي فخرٌ خاص وتعلق غامض بدمشق فكان يصطحبني (أنا ابن "شهبا" الصغير الذي يتعلم الحياة للتو) لنمشي في شوارعها ونزور مساجدها وحاراتها على الرغم من قلة المال وضيق الحال، وكان يبدو مغتبطاً جداً وأنا بجانبه أوسع خطواتي لأتبعه ويتسرب إلى عيني بريق عينيه البنيتين. كانت سوريا كبيرة وأنا صغير حتى لأتوقع أن يتلاشى العالم خارح حدودها حتى أني عندما زرت لبنان للعمل في سن الخامسة عشرة أصابتني الدهشة لكون الحياة تستمر بالطريقة ذاتها خلف حدود هذا الوطن الذي ربّبيت على الاحتواء فيه والاعتزاز بالانتماء له.

الآن وقد كبرت ورأيت ما لم تستطع عينا ذلك الطفل استقصاءهُ أصبحت ارى سوريا مكاناً يجتمع فيه الناس كأي مدينة من العالم، مكاناً عادياً ولكنه مليء بالذكريات والآمال والآلام والوجوه المتعبة.

أرى الآن سوريا مختلفة عما لقناه في حصص القومية والجغرافية، سوريا تخفق بملايين القلوب المكسورة، سوريا الناس وليس سوريا السياسيين، سوريا البشر الطامحين للأفضل وليس سوريا الحكومات الطامحة للاستغلال، بالمختصر سوريا الإنسان وليس سوريا سايكس بيكو.

مشكلتي الكبرى أو ربما النعمة الأكبر في حياتي أنني لا أستطيع تمييز الحدود السياسية لخارطة العالم، وأنظر في عيون الناس وقلوبهم وأهمل جوازات السفر المثقلة بالأختام!!

كل إنسان حر في هذا العالم هو سوري في قلبي الصغير، كل باحث عن الحقيقة هو سوري ايضاً... تماماً كما توسعت الدائرة يوماً لتتوقف سوريا عن كونها البيت والمدرسة ودار جدي "بو شريف" فقد امتدت الوطنية لتشمل كل جزء من هذا الوجود.

الآن لا تعني لي الدول السياسية شيئاً، يعنيني هؤلاء البشر تضج في قلوبهم الحياة وتتردد في عيونهم أنوار الحقيقة. وأفتخر بكوني أنا الإنسان أستطيع كسر كل زيف ورؤية كل إنسان حر بعيني السوريتين.

آسف على الإطالة ولكني احتجت لهذه المساحة لأكتب عن سوريا... لأكتب عن نفسي أنا السوري، فقد تلاشت الحواجز القومية والطائفية والعرقية من قلبي منذ زمن بعيد.

10‏/09‏/2012

على حاجز في سوريا.


في مكان مسيّج بالحدود اسمه سوريا، وعلى حاجزٍ قرب مدينة صغيرة شاحبة، كانوا يقفون. محاصرين بالأكياس والدوايب، والريح حولهم تصفرُ بحذر حاملةً أصواتَ الانفجارات البعيدة.

نظر سامر إلى ساعتهِ (وكانَ جندياً فُرزَ مؤخراً إلى هذا الحاجز). كانت تقترب من التاسعة ليلاً، حرّكَ كتفيه وهو يسوّي حبل الرّوسية الكلاشيكوف التي تثقل كاهلهُ وتسبِّبُ له خدراً يستشعره كجذور صبيرة تمتدُّ في لحم جسده المرهق. على يمينهِ
وعلى بعد ما يقارب الخمس أمتار كان رفيقه (الذي لم يعرف اسمهُ بعد) يقف شاحباً هو الآخر، يتنفس بعمق وينظرُ حوله إلى البيوت المضاءة بأنوارٍ خافتةٍ خجلى.

وبالرغم من أن كل شيء كانَ يبدو طبيعياً حينها إلا أن سامر كان يشعرُ بالخوف يخز أطرافهُ السّفلية، ويرفع نسبة الأدرينالن في دمهِ حتى ليشعرَ بمرارة في حلقه بين الفينة والفينة. أخفى ذلك الشعور في قلبه، ومشى بهدوء وبخطىُ مثقلة ناحية الجندي الذي يشاركه المناوبة. "وين كنت قبل؟" بادره الشاب قبل حتى أن يسلم عليه. توقف عن المشي تلفتَ حوله بحذر وردّ بصوت أعلى من العادة: "كنت بحمص" ثم أردفَ مبرّراً: بس كنت أخدم بمكان هادي.
- وليش نقلوك؟ تابع الجندي تحقيقهُ.
-ما بعرف! مع إنو ما ظل غير شهر ونص بخلص خدمة وبتسرّح.
- بتتسرّح!! وضحك الشاب حتى غارت عيناه بالدموع. ثم قال: لك أنا صرلي متسرّح خمس شهور عملياً, بس احتفظو فيني. ما رح نتسرّح غير لعند ربك يمكن.

افترّت شفاههم عن ابتسامات مكلومة. ثم انحنى سامر وهو يجلب قنينة الكوكاكولا المملوءة بماء الشرب، وقربها من رفيقه وهو يقول "بتشرب؟" فرفع الشاب حاجبيه.

شرب سامر ثم تسمّرت عيناهُ من جديد.

"قتلت حدا خلال هالفترة؟" انزلق السّؤال من على لسانه... وبقي معلقاً في الفضاء.
_________________

في اليوم التالي كان سامر يبحث عن نفسهِ في عيون المارّة

08‏/09‏/2012

عن الموت...

عندما توفيت جدتي ذهبت لأراها للمرة الأخيرة (وكان هذا حادث الموت الوحيد الذي حدث في عائلتي لحد الآن وكنت أحب جدتي هذه كثيراً) لم أشعر بالفزع ولا الخوف ولا الانزعاج. كان كل شيء هادئاً، منتهياً، نافذاً..فلكل شيء نهاية وأنا أحب هذا الشيء. أحب كون الأشياء غير دائمة والناس غير دائمين، يعطينا هذا شعوراً بالوقت والحب والسعادة والألم وكل شيء بطريقة مختلفة. أعتقد أ،ه إذا اقتنع الإنسان بهذا أصبح مطواعاً أكثر مع الحياة وأقرب إلى جوهرها. 


وقفت أمام الجثة المسجاة في التابوت ولم أشعر بالرغبة بالبكاء، كل ما بدر عني في ذلك الوقت أني نظرت إلى أمي وخالاتي الغارقين في الدموع وقلت لهم "سبحان الله" وابتسمت وأذكر أنهم كانوا ينظرون بذهول. ثم عدتُ إلى البيت بعد الدفن "شاركت بالدفن أيضاً" وعدت إلى البيت، شغلت موسيقى جاز وكنت احب الجاز حينها وأمضيت نهاراً جيداً.

أنا أقدر الموت وأحترمه ولا أعضب منه وأتوقعه دائماً لنفسي ولكل الناس، فلا هو مفاجأة لأخاف ولا شيء يمكن رده لأحاول ولا أريد البقاء خالداً للأبد أصلاً.


يهمني أن أحتفل بحياة من تبقى أكثر من أي شيء آخر. أتذكر من أحبهم بعد أن يموتوا كما أتذكر نفسي عندما كنت أتمشى على كورنيش أبوظبي مثلا منذ خمس سنوات.... أتذكرهم ببعض التجرد. فنحن نموت ونولد في كل وقت ولا وجود للأمان والثبات والاستقرار إلا في أفكارنا المتعبة.

كل شيء ينتهي وهذا شيء مفرح بالنسبة لي.