26‏/08‏/2012

قصّة صيّاد القريدس


في البداية وفي أعماق البحر كان القريدس يتهرّب من الصّياد المتضوّر جوعاً
وعلى الشاطئ كانَ الصياد نفسه يتهرّب من دفع الضّرائب لصالح الأغنياء و الحكومة والآلهة...

 والآن بعد أن بلغ وعقل، توقف عن دفع الضّرائب ولاحظَ أن ابنتهُ الصّبية تستحقّ هذه الأموال أكثر، فضرسها المنخوريخزُ قلبهُ ويشعره بالألم.

كلما تبسّمت ورأى سنها الأسود المنخور، يشعر بالخزي وبحرارة سكين حاد ينغرس في قلبه بدون توقف.

كان يبكي بصمت ولكنه توقف عن ذلك وتوقف عن دفع الضرائب. الغريب أنّ القريديس لسبب ما توقف عن الهرب أيضاً.

المدافن السائرة على قدم وساق


يولدُ الناس وفي عيونهم توق، وفي قلوبهم حبٌّ وطيش وفضول...
يتقدم بهم العمر، وتحوّلهم الأسرُ والمدارس والجوامع والكنائس والمجالس والقوانين إلى أشخاص مرعوبين، يخافون حتى من أنفسهم، ولا يستطيعون التقدّم قيد أنملة بلا خارطة، بلا نصّ، بلا شيخ، بلا عالم، بلا أبٌ دائم الحضور. قويُّ الشكيمة يحمل عصا التأديب وينظر بريبة إلى كل أفعالهم الطبيعية لتصبحَ مصدر تهديد لشخصيّتهم الكليّة!

ما الذي نفعله نحن البشر عندما نغرقُ مجتمعاتنا باللاجدوى والخزعبلات؟ 

ما الذي يبقى من إنسانيتنا عندما نتحول إلى مكنات نسخ ولصق؟
ما الذي يبقى من إنسانيتنا عندما يحاصرنا الخوف والعزلة في نظام اقتصادي واجتماعي جائر؟


أنا أقول لك كل شيء :) إننا نصبح مدافن سائرة. نعم مدافن من الأفكار والعقائد المكدسة، لا يزيدها الماء إلا عفونة وتفسّخ. 

هل سينبتُ الزرع الجديد فوقها؟
 هل نحنُ نشهدُ موت هذه الحضارة البلهاء التي نفاخر بها في الشوارع ولوحات الإعلانات وشاشات التلفاز الرّديئة!

هل ستزهرُ يا ترى؟ لتعود البسمة إلى قلوب الرجال والنساء، ويتوقف القتال المضحك؟ القتال الذي أفنى البشرُ أياماً رائعة في ملاحقته بخبث!

هل سنصبحُ أحراراً يا ترى؟


06‏/08‏/2012

الواهم


صمتت  وقـد نطـقَ التخاطرُ لحظة ً            متمنـطقـاً  بروائـعِ  الكـلمـاتِ
وصـدىً بعينيـها  يضـجُّ  لثـورةٍ                  دفقـت كنـورٍ  يمـلأ  الظلمـاتِ
قالت: أحبُّـكَ!  يا شـذوذَ قواعـدي                  يـا زلـة ً حمـقـاءَ  في آيــاتي
قـد كنت قبـلَك  لا حنـان يشـدُّني                 وبـلا فــؤادٍ  أقـطـعُ الفلـواتِ
بل كنتُ وحدي  كالسَّـحابِ  يلفُّـني             دمعي،  ويمـنعُـني من الإفــلاتِ
لـم أعتـقـدْ أبـداً  بـأنّـي مـرَّةً                        قـد أطـفئُ النَّـهداتِ  بالنَّـهـداتِ
أو أن أجيـدَ الصَّيـدَ  حتى أرتـميْ              قلبـاً  أشـبُّهُ مـن رحيـقِ حيـاتي
يومـاً وجـدتُ بنـارِ عينيـكَ الدَّفا                 بل  قـد جمعتَ  بنظـرةٍ أشـتـاتي
وقرعتَ نـاقـوسَ الهوى بمعَـابدي                 فتراقـصت روحي مـع الخطـواتِ
جَـذلى  تحاوطُ لحنَ روحِكَ في دمي              كالقـلبِ  إذ يحنُـو على الخلجـاتِ
فإلامَ تهربُ من فُصـولِ حكـايـتي                تَتَجـاهـلُ  التعـبيرَ في بســماتي
وإلامَ تخشـى و السَّــماءُ  تلبَّـدت                 بالغـيـمِ  غيـماً طيـب النَّفحـاتِ
يُغـري ورودَك  بالنَّسـيمِ وبالحيـا                  وبـأنَّ ســعدَكَ لا مُحالـــةَ آتِ

فأجــابَ:  في قلبي مرورٌ منـعشٌ                لنســيمِ ذكــراكِ على شُــرُفاتي
بالرّوحِ صـوتُك يا حبيـبةُ  رحـلةٌ                لم تنـتـهِ بل عنـونَت رحـــلاتي
كالكـوكبِ الدرِّي  تشـرقُ عتـمتي               بلقــاهُ فـي فكـري  وفي خلـواتي
كالسِّـحرِ ينسـجُ عـالماً من ظلمتي               ويبعـثرُالألــوانَ فـي لـوحــاتي

قـالت: وخلتكَ قـد تكـونَ بجـانبي             روحــاً وجســماً زورقـاً لنجـاتي
ويهيـمُ وجهُك  قُربَ وجهي  يرتوي              منـهُ الفــؤادُ وترتـوي قبـــلاتي
تبكي لحُـزني  أو تقهـقهُ  ضـاحكاً              كالــرَّعد  إذ أعــلو على أزَمَـاتي
إنِّـي أردتُـكَ  لـوحتي  بيقـينِـها              لا أنْ تزيَّــنَ لوحــةً بصِفـــاتي
لا أن تصـوغَ   قصـائداً  خـلابة ً              وترتِّــبُ الحركــاتِ والسَّــكتاتِ
سيَّـانَ عندكَ  إن رحلتُ  وإنْ أعُـدْ              فالـوهمُ يمــلأُ عـالمَيـكَ بــذاتي


وتلعثمَ  الولِـهُ  المحبُّ تَفَــاجُـؤاً                ما أدركتْ عيـناهُ  مـن غـايــاتِ:
إنِّي أحبُّـكِ... بـل أُحِسًّ سـعادتي                رهـنٌّ بهــذا الــودِّ يـا مـولاتي
فلتحفظي عينَيـكِ  مِنْ شبـحِ الأسى                ولتـرحمي قلــبي  مـنَ العَبَـراتِ

قـالت: صديـقي، إنَّ قلبي ظبيـة ٌ                 والظَّـبيُ  لا يخشـَى مـنَ الغـاباتِ
إنِّي لأَسْـمعُ  صوتَ حالِكَ  قائِـلاً                  قـومي وربُّـكِ قــاتِـلا لـنْ  آتِ
وعيونُكَ الخَجْـلى  تخبِّئُ  ذعرَهـا                 وتحــاولُ الإفـلاتَ مـن نظـراتي
ما كنتُ أحسـبُ  أن أراكَ  كأنَّـما                 أضحتْ حيــاتُكَ لوعَــةً وحَيَـاتي
من بعدِ ما كنَّـا  نراشِـفُ سـعدَنا                 نتراشــقُ  الألحــانَ فـيضَ لغاتِ
ويلي تغيَّـرَ كـلُّ شـيءٍ  وانطفى                  بفــؤادِكَ المشـغولِ رجـعُ صلاتي
ما عـادَ  في قلـبي مكـانٌ شاغرٌ                  فعَــلامَ  تُمعِنُ   مُهمِـلاً  آهــاتي

قلبُ المُحبِّ  عواصِـفٌ لا  تَنتـهي                والزَّورقُ الطَّــافي   بلا مِرســاةِ
ونجـاةُ هـذا القلبِ  نبضُ حقيـقةٍ                 والوهـمُ فهـوَ صنـاعــةُ الأمواتِ

01‏/08‏/2012

كيف رأوا الفيل؟


فيل على كرة
   
  هل على الإنسان أن يطوّر نفسَهُ لـ "يستوعبَ" اختلافات طبائع الناس وطرقِ تفهّمهم للأمور التي تبدو غاية في التناقض في بعض الآحيان؟ وما الفائدة التي قد يجنيها من ذلك؟ وكيف قد يؤثر هذا عليه، على نفسه وعقلهِ وروحه وعلى سلوكهِ اليوميّ؟


      أذكرُ منذ حوالي عشر سنوات أنني قرأتُ كتاباً كان عنوانهُ "بين الجوهر والمظهر" (علماً بأنَّ عنوانه الإنكليزي المترجم عنهُ عن الألمانية هو "To Have or To Be" والتي تعني بالعربيّة "أن نملك أو نكون" ولكن المترجمين العرب عادةً يعمدونَ لإقحام شيء مما تعوّدوه من التأليف). على كل كان الكتاب تحوّلاً مهماً في حياتي حيث وجدتُ فيه تلخيصاً مقنعاً لما كان يجول في ذهني في ذلك الوقت عن الحقيقة.

      على أي حال فإنّ العنوان واختلاف ترجمتهِ لم يؤثرا على أهميّة الكتاب. ونسينا أن نذكر أنهُ من تأليف "أريك فروم" بعد خبرة حوالي أربعين عاماً في أعمال التحليل النفسي والتعمّق في نفسيّاتِ عيّناتٍ من هذا الكائن الغريب، وإلقاء نظرة سريعة على المجتمع الغربي المُعاصر (آن ذاك) في آخر فصل من الكتاب.

       عندما تكلم عن اختلاف النّاس في طرائق فهمِهم للأمُور بحسب اختلاف الزوايا التي ينظرون منها والأفكار المُسبقة التي تؤثر على رؤيتهم للأموروطريقة عمل أدمغتهم بحرية، واستسهال إطلاق كلمة "حقائق" عليها، و"أكاذيب" أو "ظلالات" عمّا سواها من نتائج. يطرحُ مثالاً قديماً؛ أربعة متطوّعين يتم إدخالهم بالتوالي إلى غرفة مظلمة حيث يوضع فيلٌ ضخم. ويُطلبُ منهم وصفَ هذا الشيء كل على حدة، ودونَ أن يخبروهم بشيء عن طبيعة ما ينتظرهم في الغرفة ولم يسمح لهم بمشاركة ما يتوصلون إليه مع بعضهم أيضاً!

       "هذا الحيوان هو نوعٌ ما من أنواعِِ الأفاعي الكبيرة بالـتأكيد!" قال الأول بعد أن تحسّس خرطوم الفيل الضخم. "فهو طريّ، ممتدّ، ويتلوّى عندما يتم لمسه".  أمّا إجابة الشخص الثاني وكان قد تحسّسَ الاذن الكبيرة للفيل فكانت كالتالي: "إنّ هذا الحيوان هو حيوان بحريّ على الأرجح، فهوَيمتلك زعانفَ وأنياب كبيرة، إنهُ نوعٌ من السّمك الغريب" كانت إجابة الثاني. أما الثالث فقد رأى شيئاً مختلفاً، قال: "وجدتُ في الداخل شجرةً قاسية الجذع، إنها شجرةٌ بالتأكيد" وكان السّبب أنهُ وضعَ يدَهُُ على أحدِ أرجل الفيل الكبيرة الطويلة القاسية مما جعلهُ يعتقدُ ذلك. وقال الرابع بعد أن لمسَ بطن الفيل الكبير والممتلئ : "هذا حيوان كبيريشبه البرميل".


      بالرّغمِ من فضاعةِ هذه النتائج الفرديّة، وعدم إمكانية مطابقتها للواقع على ما يذكر المؤلف، إلا أن كلاً من هؤلاء المتطوعين الأربعة قد رأى حقيقة ما بحسب الزاوية التي ينظر منها. ولو قدّرَ لهم الاجتماعُ معاً لتبادل صِفات ما رأوه بموضوعيّة، لاستطاعوا أن يكوّنوا صورة أكثر مقاربة للحقيقة من الصّور الناقصة التي اكتفى كلّ منهم بالتقاطها من تجربته غير الكاملة، ولو سيطرت عليه التكبر والقصور والاستفراد بالرأي - وهذه الإضافة مني وليست من الكاتب - لتقاتلوا على مذبحِ حقيقة يعرفونها جميعاً ويجهلونها جميعاً بكل حماقة!!


ملاحظات: - القصة لم تؤخذ بحرفيتها من الكتاب.
              - يقال إن المتطوعين عميان في بعض الروايات.
              - هناك اختلافات أخرى في الرواية لكنها حافظت على نفس المعنى.
              - نحن واحد.