15‏/05‏/2012

لماذا يفرح الأطفال؟



الصورة من ناشيونال جيوغرافيك
         
    تعصف السماء بمزيد من الرياح، وتتراقص شجرة التين ذات السبعين عاماً على وقع هذه الموسيقى الكونية، فتصطف الأوراق وتتعانق الأغصان برشاقة نساء في الثلاثين، وينهمر التين كوزاً إثر كوز على أرض تنظفها الطبيعة كامرأة قررت أخيراً أن هذه الأرض اتسخت بما فيه الكفاية فراحت تضرب مكنستها الكبيرة ذات اليمين وذات الشمال، لتتراقص ذرات الغبار في كل الأمكنة المحتملة، وتملأ الثقوب الغير مرئية للمخد والشراشف والزهور، وتجاويف الآذان، وأصبح للجو رائحة أخرى أشبه برائحة الجاهلية... رائحة أجسام الرجال والنساء والأحصنة بعد يوم أو اثنين من الترحال، رائحة العشب الذي يولد بنشاط، رائحة الأرض بمخلوقاتها؛ تلك الرائحة الجائحة التي لا تعرف الوسط، والشمس تضع وشاحها بحياء وتختفي خلسة وراء الجبال البعيدة فيما بدا أنه أبعد نقطة في كوكب الأرض.

             لم تكن نسرين تفكر بكل ذلك، ولا حتى بشيء منه أصلاً، بل كانت تكتفي بالوقوف شاحبة الوجه في الفناء الأمامي للمنزل، فقد مرّ أسبوعان وهي طريحة الفراش تعاني الإسهال والحرارة المرتفعة، وهي الآن تائقة للخروج ومشاهدة كل هذا مرة أخرى. في الأعلى كانت الغيوم تتسابق كقطيع هائج، ولم يكن بوسع أحد أن يتكهن بما تخفيه تلك الليلة من ليالي شهر آذارالمزاجي.

             أحست بموجة من الفرح الغامر تجتاح كيانها فاستدارت صوب المنزل وعلى شفتيها مشروع ابتسامة، مسحت عينيها بكمها الطويل وهي تضم دبا صغيراً من الفرو كانت قد وجدته في غرفة القعدة منذ أيام، ثم ركضت نحو المنزل بسرعة فائقة. كان المنزل على بعد خطوات قليلة منها حيث تقف، وكان أبوها يطل بوجهه الشاب من شباك المطبخ بصمت، التقت أعينهما لوهلة فابتسم لها وقال أشياء لا معنى لها.

            لن يفهم أحد ما الذي دفع بنسرين إلى تلك الركضة الماراتونية في ذلك اليوم، ولا حتى هي  نفسها، فقد كانت تركض كأرنب اكتشف وجود صقر في الأجواء فقرر اللجوء إلى جحره الآمن، ولكن نسرين كانت –على عكس الأرنب- فرحة وليست خائفة. كان قلبها الصغير يخفق مئة مرة في الدقيقة، ووجها الجميل يحيي الحياة بثقة وسعادة وحبور... لا شك أنها كانت تعيش لحظات جميلة، وهذه كانت طريقتها في فعل ذلك؛ وكأن زوربا الصغير بداخلها استيقظ فجأة ليرقص قليلا وحسب!

            عندما نستخدم الكلمات لوصف أشياء مماثلة تبدو الكلمات هرمة، وقد نبدو نحن أغبياء، إنه لشيء بالغ التعقيد أن تحول الأحاسيس والمشاعر إلى كلمات، والعواطف إلى أفكار، والعواصف والفيضانات إلى مجرد أحرف داكنة على صفحة بيضاء... إنه شيء في غاية السخف والصبيانية أصلا!!
               فنسرين هذه صغيرة جداً لم تتجاوز السنة والنصف، عيناها السوداوان تضجان بالحياة، وقامتها القصيرة تجعلها تبدو كائناً للتسيلة وباعثاً للضحك أكثر مما تبدو إنساناً موعوداً بالنمو في كل ثانية جديدة، وكان شعرها الأشعث يضفي عليها مسحة فريدة من الجمال والبلاهة أحياناً...

               عندما كانت تركض باتجاه المنزل شاهدت أمها في المدخل تقوم بمسح الأرض وتنظيف الأوحال وكان الباب مفتوحا ، فانطلقت صوبها بسعادة من وجد شيئاً كان يبحث عنه، ولم يكن بإمكانها التفكير بأن حذائها الملوث بالغبار الذي بدأ يتحول إلى وحل مزعج مع كل خطوة أخرى سوف يلقي بها في مشكلة... فاستحقت ضربات عديدة على يدها التي احمرت فجأة فغاصت في موجة من البكاء الهستيري وأمها تحملها إلى الداخل وتنتزع الحذاء الذي لم يمض على ارتدائه دقائق معدودة. الدموع التي تغمر وجهها جعلتها تكاد تختنق ولم تستطع حتى أن تفكر في سبب ما يجري، لماذا تضربها هذه الأم اللطيفة التي تحبها كثيراً؟ ولماذا تنتزع الحذاء الجميل من رجليها؟ أخذها أبوها من بين يدي إمها بينما كان يدور بينهما حوار غير مفهوم تماماً ولكنه كان عنها بالتأكيد... أرادت أن تتوقف عن البكاء ولكن الأمر كان قد خرج عن سيطرتها فعلاً. ولم تعرف كيف انتهت تلك الموجة وعلى أي شاطئ تكسرت، ولكنها استيقظت في اليوم التالي وهي تشعر بالفرح من جديد، وكان أول شيء فعلته هو أن مشت باتجاه حذائها في  العتبة وأحضرته إلى أمها التي قبلتها برفق على رأسها وهي تبتسم لها بعذوبة، وتناست كلاهما ما حصل البارحة، وكأنه كان خارج معرفتهما الاثنتين، أو كأن ذلك المشهد كان قد فصل عن الواقع كمشهد فيلم تابعه الناس وتأثروا به لحظة عرضه وحسب!
فرحة بحذائها كانت نسرين تتراقص في أرجاء البيت وتزقزق، تذهب إلى الباب وتخرج قليلاً إلى الفناء ثم تعود لتملأ الجو بتلك الحياة التي يسبغها وجود طفل في مثل عمرها ونشاطها في منزل رحب. كانت أمها تعد الفطور في المطبخ بينما كانت نسرين تحتفل من جديد بأشياء ستبقى معرفتها حكراً على ابنة السنة و النصف هذه فقط...

من مسودة (كان على وشك أن يدرك)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق