29‏/07‏/2012

هل الباحث الحر حياديّ؟

       موهبة الباحث بالقدرة على استجلاب الأدوات لاستنتاج النتائج واختيار الأفضل لمعرفة الحقيقة الآن جدّ محاصرة ومهدّدة بالفشل ولكن، هل تراهُ يستطيع الخروج من قمقمهِ، ليرى الأحداثَ بعين الواقع بعيداً عن الأفكار المسبقة   والتخيلات العقلية الجافة والتأثر العاطفي المنفعل؟

         
في الصّحافة يقولون اتبع المال. وفي السّياسة يقال اتبع المصالح، وفي المجتمع نقول التمرد على الخطأ هو أول الدرب الصحيح والخروج عن الإطار والقاعدة المتعارف عليهما هو صافرة البدء. فالثورة تبدأ برفض الواقع الاجتماعي أو الديني أو السّياسي وتنمو لتصبح جنيناً كامل الصفات. كل ما يؤثر على الجنين في سبيل إبقائه في جوف أمّه مربوط بها بقنوات التغذية والعواطف هو أمرٌ معاكس للطبيعة ومرفوض وكل ما يؤثر عليه بمحاولة إجهاضه مضرّ أيضاً ومرفوض. ولكن الأكيد أن قدره أن يولد ولا سبيل للحيادية في هذا


         الباحث الحرّ يستطيع سبر الحقائق والتعرف عليها وفهم العلاقات المبنية على الهرمية والسيطرة والمصالح، لأنه متخلص من الخوف واللامسؤولية معاً واللذان هما تطرفان ويستطيع أن يرى خلال المشكلة وما وراءها ولا ينحصر نظره في الحالة العاطفية التي تهاجم الباحثين النمطيين عند محاولة إيجاد حل. إنهُ يعي شكل المجتمع الحالي ومشاكله، ولديه تصوّر لما يريد أن يصل إليه. إنه يعرف ويلاحظ ويستنكر كلما يخالف الطبيعة في علاقة الدولة بالناس وفي علاقات الناس بين بعضهم. يعي الظلم ويعرف قلبُه الشلل الذي يسبّبه التنافر والخوف والعنترة المفتعلة اللامسؤولة، ويدرك أن هذا غير صالح لبناء الحياة في أي مكان. قد يعدم الوسيلة حينا ً لمواجهة الواقع، وقد يضيع أحياناً بين المتضادات ولكنه بالتأكيد لن يصفق للظلم ولا للفساد والجهل. عمل المثقف في المدينة كما يقول أحدهم هو وقف الهراء. إنه بعكس رجل الدين ورجل السياسة لأنه غير مقاد بالمصالح ولكنه واعٍ لها، غير مهتم بالطوائف ولكنه مدرك لحاملي فكرها الانعزالي، غير خائف من التغيير ولكنه مسؤول فيما يفعل وشجاعٌ في انتقاد الخطأ، وما أسرعه في انتقاد نفسه وفي قبوله النقد لأنه يعرف أن الكمال ليست واحدة من صفاته العديدة.

         
هو يدرك أن الافتعال لا يصنع الحياة وأن الفعل الحرّ وحده ما يستحق الاحترام، وفي قرارة نفسه يعلم أن النباتات لا تنضج بنفس الوقت، والناس كذلك تحتاج لاختبار الحقائق حتى تتبناها، تحتاج للإدرك حتى تتبنى الحقائق، بينما يتسرع المسيس والمتدين لاتخاذ القرارات المسبوقة بالقوانين والنصوص لأنهما محتوَيان فيهما غير قادرين على الخلاص من براثن أحد اشكال العبودية في هذا العصر.

         
وأخيراً ليست الثورة عملاً فردياً فقط ولكنها عمل فردي في جوهرها. وليست عملاً جماعياً فقط ولكنها أيضاً عملٌ جماعي في جوهرها.

        ينمي الباحث نفسه ويطور قدراته على ملامسة الحقيقة واستخلاصها من كل الأمكنة، هو ليس عدوا لأحد، وليس خصم أحد، ولكنه لا يسكت على ظالم حتى ولو كان هذا الظالم من يكن، وحتى لو حاول الظالم التذرع بالذرائع والقوانين والنصوص والاثباتات لأنه يعرف كيف يضع هذه الوسائل في خدمة الغايات دون تردد وبملاحظة ثاقبة للزمن. هو لا يستطيع في هذا الصدد أن يجعل الناس تتقبله كصديق دائماً، فهو لا يتدخل في تصاريف الناس ولا في تقييماتهم، ويظل هدفه الأسمى الدفاع عن حقه بالتعبير، ولأنه يدافع عن حقه في التعبير فهو يفعل الشيء عينهُ مع الناس الذين يعتبرهم أنداداً له.

         
ولأن الحياد موت، والمحايد خارج دائرة الحياة المحاطة بالأخطار، ويعيش على شاطئ مهجور وهادئ ورتيب ومثقوب فوقه الأوزون وهو ينظر وينتظر لأنه لا يريد أن يعيش إلا في مخيلته المكبِّلة وأوهامه، فإن الباحث الحرّ لا يكون حيادياً ولكنه ينحازُ إلى الحق الذي يراه ويراعي حقّ الآخرين في خياراتهم حتى ولو اختاروا أن يبقوا كذلك. هو يسعى للتعبير عن نفسه كوردة تنشر عطرها في الأجواء دون الهوس بالنتائج ودون فرض آرائه وقناعاته التي كونها مع الوقت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق