11‏/03‏/2012

الانتصار المذل والحروب المجيدة!

ما زالت نسرين تذكر تلك الصبية الجميلة بتنورتها الحمراء التي تصل إلى أسفل ركبتها وهي تدخل الصف بنشاط. كان الكثير من حب الشباب يملأ وجهها، أما عملها فكان معلمة "فنون" في مدرسة "فلسطين" الابتدائية، دخلت إلى الصف وكان هذا أول درس لها هذا العام.

    توجهت إلى "السبورة" ورسمت مستطيلاً كبيراً لونته بشيء من القرف الذي لا يمت للألوان بصلة وعلى التوالي بالأحمر والأبيض والأسود ووضعت نجمتين صغيرتين في منتصفه، ثم استدارت إلى الأولاد والبنات الجالسين بانتظام المستجدين المعهود، وسألتهم: علم مين هذا يلي رسمتو على السبّورة؟ فرفع الأطفال أيديهم بنشوة، وأجاب أحدهم بعد أن وقع اختيار المعلمة عليه فوراً وقال: علم سوريا آنسة! كان ذلك صحيحاً فقالت المعلمة للتلاميذ الذين علت أصواتهم عن ذي قبل بأن يصفقوا لصديقهم، وراحت تقص عليهم القصص كيف تم اختيار هذه الألوان بالتحديد لتمثل علم دولتهم التي شاءت الظروف أن يولدوا فيها وليس في اسطنبول أو فوكوشيما أو نيويورك.


 ثم استدارت من جديد لترسم بطباشيرها الكثيرة التي حيرت نسرين حينها وكانت تجلس في المقعد الأول بجانب صفوان ابن عمها ولبنى صديقتها. وفرغت من رسم مستطيل آخر على الجهة الثانية من السبورة ولونته بالأزرق ثم بالأبيض ثم بالأزرق من جديد واستدارت تحو التلاميذ قائلة وهم يتابعون بعيونهم الشغوفة: وهذا علم الكيان الاسرائيلي. وبعد قليل من الكلام عن إسرائيل والصّراع الأبدي مع سوريا وكيف أن اسرائيل كانت لتحتل سوريا لولا جيشنا الصّامد وقيادة القائد الخالد الذين دحراها في حرب تشرين التحريرية، وطلبت من الطلاب الشغوفين للمعرفة أن يرسموا صوراً يتخيلوها لحرب تشرين عندما يعودوا للمنزل.

*  *  *  *  * 

كان الأطفال الصغار حديثوا العهد في الحياة بعد، فالسنوات السبع أو الثمان التي قضوها في هذا العالم لم تكن كافية ليعرفوا أنهم أتوا على عالم مليء بالمفاجآت والمؤامرات والخيانات! فراحوا يستخدمون ألوانهم بترف وهم يرسمون الشمس والدبابات والجنود الإسرائيليين بوجوههم البشعة والدماء تنز من أجسادهم المجروحة.


*  *  *  *  * 

عندما عادت إلى البيت في ذلك اليوم من شهر أيلول، كان الخريف يطرق أبواب قريتهم برياحه المفاجئة وعواصف الغبار التي يثيرها ولم يكن هنالك الكثير من الأوراق في الشارع كما كانت تقرأ عن في الكتب عن الخريف. لم يكن في القرية الكثير من أوراق الأشجار أصلاً، فباستثناء بعض أشجار الزيتون التي تغطي مساحة لا بأس بها والتينة الكبيرة على مدخل بيتهم وشجرة الكينا المعمرة في أرض دار عمها "راضي" لا تكاد تعرف أي أشجار أخرى!

 كانت تفكر فيما حدث معها اليوم في المدرسة وفيما سمعت من آنسة الرّسم على وجه الخصوص؛ عن الأوقات التي خاضها الآباء في تلك الحرب الصّعبة والتي بسببها ينعم الناس بالأمان والرخاء الآن، عن القائد الخالد وحنكته وعن جيشنا الباسل وإنسانيته وقوته كما قالت الآنسة. وبقيَ دماغها الصّغير متحيراً في طبيعة الرّسمة التي يجب أن تنفذها.
فرشت أقلامها حواليها وراحت ترسم على دفترها الجديد بحماسة بنت في الثامنة من العمر تحاول التعبير عن نفسها بجد. ابتدأت بعلم إسرائيل بلونيه الأزرق والأبيض مغروساً على إحدى القمم العالية في البعيد ودبابة سورية تطلق قذيفة على هذا العلم من مكان قريب، لكنها لم تستطع أن تجعل ذلك يبدو حقيقياً بالرغم من محاولاتها العديدة، فمحت العلم الإسرائيلي وغرست مكانه العلم السّوري بألوانه الأربعة وقد خرجت الألوان عن الإطار الذي كانت قد وضعته مسبقاً للعلم الذي يبلغ نصف حجم الجبل تقريباً وعلى قمة أخرى وضعت علماً إسرائيلياً ولم تعرف ما تفعل بعدها، فقامت بتمزيق الورقة وبدأت من جديد...

كان هناك دخان في الجو عبّرت عنه نسرين بالكثير من الخربشات الداكنة بقلم التلوين الأسود، وجندي إسرائيلي يضع خوذة عليها نجمة سليمان التي لم تكن تعرف بعد أنها أقدم من إسرائيل بآلاف السنين، وكان هذا الجندي ينزف بشكل مزر فقد امتلأت اللوحة باللون الاحمر القرمزي الذي راح يتسرب على ما حوله من أشياء حتى أنه صبغ ظاهر يدها بلونه المخيف، فبدا حقيقياً للغاية، وفوق هذا الجندي كان ينحني إنسانٌ آخر يحمل علم سوريا وهو يطلق النار عليه عن قرب. في الجانب دبابة سورية تطلق قذيفة في الجو ، قذيفة بدت على شكل حجر ملتهب طائر وكأنه مرمي بمنجنيق. وعندما انتهت نظرت إلى اللوحة التي أصبحت جاهزة الآن ولم تكد تشعر بشيء في البداية ولكنها أحست بشظية في رأسها تدفعها للجنون...

أحست للمرة الأولى بأن ما صنعته كان قاسيا ًولا إنسانياً جداً فحتى جراح الأعداء تشيع الحزن في القلب عندما تنزف، كان ذلك مشهداً مأساوياً لا يساويه مشهد، فحملت دفترها وركضت إلى أمها التي كانت تعد شيئاً ما في المطبخ، وأمسكت بتنورتها السّوداء وراحت تجهش بالبكاء!


 وبعد عدة أيام وبعد أن شاهدت المدرِّسة الوظيفة قامت بتمزيق الورقة ورمتها في سلة المهملات وهي تشعر بمزيج من المشاعر المتضاربة التي لم تستطع تفسيرها.

*  *  *  *  * 

       لم تكن تعرف أن الانتصار قذر أيضاً، وأن الحروب "المجيدة" تحمل تفاصيل مذلة لهذه الدرجة!

      واليوم وبعد سنوات طويلة من ذلك الحادث أصبحت نسرين على ثقة بأن هذه الحروب هي مهازل كبيرة فالكائنات البشرية جميعها تربطها صلة عظيمة مع بعضها البعض ومع "الأم الأرض" كما يحلو لها تسمية هذا الكوكب السابح في فضاء الكون الرحب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق