17‏/09‏/2012

أضواء على العصر 1

قد يبدوالموضوع الذي سأتناوله في هذا البحث غريباً وبعيداً عن السّياق في هذا الوقت، حيث الثورات تذرع دول العالم محدثة التغييرمسببة بإيجاد مفاهيم مختلفة للحريّة والديقراطيّة. فمن الطبيعي والمنطقي - على رأي الأكثريّة - أن نتكلم عن الثورة والثوار والحريّة والأحرار والقتل والدّمار ونخرس عما سوى ذلك. ولكني في الواقع أرى أنّ ذلك ليس كافيا أبداً، إذ كثيراً ما يغيبُ عن أذهاننا أننا نتكلم عن التغيير الحقيقيّ وأنّ الشقّ الاجتماعي منه هوالحجرُ الأساس لنصرة الثورة وإيقاف العنف ويحقق بناء حياة إنسانية صحيحة ومُستدامة، فيما تبقى التغييرات السّياسية السّطحية التي لا تطال العمق مجرّد تغييرات في موازين القوى إذا لم تترافق مع حركة اجتماعية تعنى بالإنسان كجوهرعظيم، وبحياة الإنسان ككائن يستحق التقدير والاحترام والحياة الكريمة والحرية الحقيقية.

ما أحاول قولهُ هنا أنّ الحريّة لا يمكن أن تُختزل وتُقزّم وتتحوّل إلى حريّة اختيار شخص من بين عدّة أشخاص موافق عليهم أصلا من قبل مجموعة من المتنفذين وأصحاب المصالح، وهو الشكل الذائع الصيت للحرية التي يطالب بها الناس محتذين المثال الهوليودي المزخرف والكاذب. "هذه ليست حرية ولا ديمقراطية ولكنها حرية اختيار الدكتاتور في أحسن الأحوال" (كما قال لي صديقي وابن خالي أسامة ذات يوم). ليست الحرية في التنقل بين أناس سرعان ما يفسدهم نمط السّلطة والاقتصاد السّائد والحتمي، ولا يمكن أن تتأتى باستبدال الزّعماء الحاليين بآخرين، ولا تعني حتى أن توصل مرشّحك "الرائع والنزيه" إلى سدّة الحكم أو الوزارة أو البلدية!! الموضوع يحتاج إلى قليل من البحث للوقوف على أسباب هذا الفساد وليس الهروب غير العقلاني في حين يستمر النظام باستعباد الناس وسرقتهم كل شيء بما في ذلك تحطيم احترامهم لأنفسهم وتشويه نظرتهم الموضوعيّة. وكل ذلك يحصل بمنهجية بالغة الدقة وبجهل تراكمي يصعب شرح انتقادي له ناهيك عن التأثير فيه.

ولكي نعي كل ذلك بالشكل الصّحيح ونستطيع رؤية الفساد الحتمي للسلطة والانهيار الواضح للأخلاق والمبادئ وتحكم النخبة في أمور الناس، لكي ندرك ذلك وغيره يتوجب علينا المبادرة بكثير من الشجاعة والخروج عن المألوف، كل مألوف من تفكير ومعتقدات وإيديولوجيات وعادات وتقاليد لنخرج إلى فضاء الإنسانية الرّحب. يلزمنا طريقة تفكير وطريقة عمل مختلفة، ونقد دقيق للطريقة التي يبني من خلالها البشر مجتمعاتهم، والأسلوب الذي يسيِّرعالمهم والطريقة التي تضبط علاقاتهم مع بعضهم ومع الطبيعة ومع حكومات افترضوا ضرورة وجودها، وسيكون علينا أيضاً تفحص ومعرفة ما يعلموه لأولادهم في المدارس على أنه العلم ومعنى الحياة. تلزمنا بعدها شجاعة الاعتراف بأن الفضيلة شيء غير متوفر الآن ولا يمكن توفيره بمجرد الانشراح على أصوات مذيعي الأخبار وهم يتحدثون عن الديمقراطية والحرية.

الربح والسّيطرة هي ما يقود عربة هذا العالم المتداعي وليس الأخلاق ولا الفضيلة. على المرء أن يبادر ويتعلم الشجاعة ويتوقف عن الولاء للأفكار الحالية والمعتقدات الحالية للزّعماء الدينيين والاجتماعيين والسّياسيين وفلاسفة السّقوط. عليه أن يتوقف في الحال عن تبجيلهم و تصديقهم والتوقف عن الاستلاب المقيت لكلامهم وأوهامهم العقيمة التي لم تفعل سوى زيادة الضّرر وتقسيم الناس وخلق الندرة والتي كان من شأنها الحروب المستمرة، والدّمار المحتم، والجوع الأبدي، والابتعاد الحتمي عن الدّيمقراطية التي يصبح الكلام عنها "إهانة لذكائنا واستخفاف بقدرتنا على رؤية الأشياء" كما يقول John Parkins  في اعترافاته الشهيرة، ثم الالتفاف على المجتمع المدني وسلبه حرياته من ناحية، و زيادة الأرباح للماسكين بزمام الأمور والمختبئين خلف ابتسامات الرؤساء والسّياسيين، مقسّمي الدّول ومموّلي الحروب، وأصحاب شركات السلاح والأدوية ومصانع الطاقة. يعني زيادة أرباح ونفوذ وتسلط مسبّبي الشلل أنفسهم، أولئك الذين يستعبدوننا ويخربون المجتمع المحطم على وقع أطمعاعهم وشهوتهم للسيطرة.

وبسبب عدم وضوح العلاقة بين الدّين والدولة وأهميتها، وأثر كليهما على الإنسان، وتقصير الكتّاب والدارسين في الكتابة عن هذا الموضوع خوفاً أو استخفافاً أو ربما لعدم توفر قناعة جديّة في أهميّة العمل الاجتماعي بعد طغيان العمل السّياسي الفارغ على السّاحات. وبسبب من الأهمية الكبرى لما يمكن أن ينجم عن دراسة هذه العلاقة من نتائج هامة وأثرها على حركة المجتمع وتجدّده ونموّه أو جموده وانغلاقه وبالتالي على طبيعة أبنائه وبناته، وحدود قدرتهم على الخلق والابتكار، ومدى عقلانية ما قد يبدر عنهم من قرارات في أمور الحياة المختلفة. بسبب كل ذلك كان لا بدّ لي من الكلام عن هذه العلاقة المركبة بين الإنسان والدين والدولة وتأثير كل هذا بالتكنولوجيا وتأثره بها.
 أنْ تناقش الدّين وعلاقته بالانسان والدّولة يعني أن تنظر إلى البيئة لتدرس تأثيرها على الفرد وعلى نموّه سلباً أو إيجاباً للوصول إلى ما يجعله يتصرّف على هذا النحو أو ذاك وهو ما ينعكس على  المجتمع أو "الدولة" وهي الشكل المؤسّساتي للسّيطرة السّياسية كما أن الأسرة أو العائلة هي المؤسّسة الأصغر للسّيطرة الاجتماعية. وكل هذا لا يدل على انسجام وحرية بقدر ما يعبّر عن الخديعة التي يعيشها سكان هذا الكوكب في هذه الفترة من عمر الأرض، خديعة أنهم مفصولون ومرتّبون على الرّفوف في طبقات تبدأ بالأُسر وما تحويه من تطويع إجباري لعقلية الفرد وغرس المفاهيم المختلفة في رأسه وعقله منذ الصّغر وهو الأمر البالغ الخطورة على الإنسان في مستقبل أيامه، إلى الطبقة الاجتماعية وما تحويه من عُقد من قبيل متعلمين وجهلة أذكياء وأغبياء أغنياء وفقراء وهلم جراً من التصنيفات المريضة وغير العادلة، إلى القبيلة والعرق واللون، إلى الدّولة بتناقضاتها الكثيرة بمؤيديها ومعارضيها وأحزابها المختلفة، إلى الطائفة ولا عقلانية الانتماء إليها، حيث لا أحد يختار أن يولد يهوديا أو مُسلما أو سوريا أو هنديا أو أبيضاً أو أسوداً ولكنه يتعرّف على كل ذلك في سنيّه الأولى وتغرس المفاهيم والمعتقتدات والوطنيات في رأسه بحيث لا يستطيع لها دفعاً فيما بعد لأنها بلغت من التجذر مبلغاً مكنها من صبغ شخصيته الكلية بصبغتها وفي هذا مخالفة لأبسط مفاهيم الحرية والعدل. وفي اعتبارها "طبيعية" أكبر مغالطة قد يقع فيها الإنسان.

على ضوء التقسيمات السّابقة، وفي ظلّ ارتفاع المزيد من الأصوات في عالمنا العربي منادية بـ "الحرّيات" و"الدّيمقراطية" وإسقاط الأنظمة، وبسبب صعوبة المرحلة الحاليّة يتمّ الانزلاق دون انتباه وعن غير قصد في غالب الأحيان إلى الخطاب الدّيني والطائفي والعرقي والقومي، وتنحصر الطلبات وتتقلص لتصحوَ فينا المشاكل القديمة التي كانت مسؤولة عن تخلفنا إلى حدّ كبير، وننسى فجأة في غمرة عاطفتنا أن مشكلتنا ليست مع بعضنا أبداً ولكنها مع أنظمة قمعيّة مستبدّة لطالما سكتنا عن جرائمها وسرقتها وزودناها بالقوة (بخنوعنا الدائم) والمال (بالضرائب والبدائل الكثيرة التي ندفعها) والسّلطة المطلقة (بعدم متابعتنا وانتقادنا لها) ممّا أدّى إلى تضخّمها إلى الحدّ غير المقبول الذي نراه الآن! فالسُّلطة المطلقة تُفسد أي حكومة أو حاكم... إنها تفسد كل إنسان بالتأكيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق