17‏/09‏/2012

أضواء على العصر 3

هل لدى الدين القدرة على تغيير المجتمعات والمُضي بها نحو الحرّيات العامة والخاصّة ومزيداً من النضج؟ وهل يستطيع رجل الدّين فعل ذلك؟

 إذ نفكر بالجواب فإن أول ما تتبادر إلى أذهاننا الكثير من الحقائق المقدّسة التي تربينا عليها وزرعت فينا بالعادة والتكرار وغالباً بالإيمان اللاعقلاني المستند على التصفيق، والتصديق، وعدم الشك، ورفض العقل والمحاكمة العقلية والمحاكاة المنطقية، والتي كان من شأنها يوماً أن تجعل منا بشراً سويين مبدعين مختلفين!

ويأتي الجواب من صميم التجربة الإنسانية فالدّين هو مجموعة من الطقوس المستندة على مثيولوجيات أخرجت من حركة الزمن وتم تحنيطها لتصبح من القداسة بحيث تتفوق على الإنسان نفسه، وهي بالتالي من الممكن أن تصيب الشخصية بشلل وعجز وعزلة كلية سببه الابتعاد عن التواصل الحقيقي مع النفس والمحيط، وتراجع الحب المبني على النضج والاستقلالية والاحترام بعيداً عن السّادية والمازوخية وغيرها من الأنماط الملتوية للحبّ والإيمان وانعدام التفكير العقلاني والمنطقي والغرق في تفاصيل ميثيولوجية تحرِّف الأخلاق لصالح النصوص المقدسة وتقيد الحرية لصالح تفاسيرمعينة سبغت عليها القداسة. كمٌّ هائل من القوانين والتشريعات والتعليمات وما عليك إلا التسليم بها بلا لم ولا كيف لتكون مؤمنا في الكثير من الأحيان، وهنا تكمن المشكلة القصوى في إخراج الإنسان من محور الاهتمام وتحويله إلى تابع ليس عليه أن يفهم بقدر ما عليه أن يطيع. وهو بهذا ينبذ أهم ملكة من ملكات الإنسان وهي العقل، ويتخلى عن إنسانيته بتحوله إلى إمعة. إلى شخص تابع مردد عديم القيمة.


وعليه فأنا أستبعد أن تكون للدّين (بفهمه الحالي وطقوسه الرّاهنة) أدنى قدرة على مواكبة العصر بما يحمل من تغييرات بنيوية أصابت الفرد كنتيجة حتمية للنموّ وتغيُّر الزمن، والتقدم التقني الذي نشهده اليوم. إذ رُصِّعَ إنسان العصر بقيم جديدة أخذت تتصارع مع تلك القديمة التي ألفها مسبّبة تغييرات واضطرابات جذرية في الشخصية الاجتماعية، ضاربة عرض الحائط بكل ما هو يقيني وثابت، معرّضة للشك حتى أثبت الأشياء وأكثرها تصديقا في رواية الدين والموروث الاجتماعي، واضعة الإنسان وجها لوجه أمام أسوأ كوابيسه وأعنفها وأخطرها على الإطلاق؛ العزلة.

الحقيقة أن إنسان اليوم مؤمن بقيم الحريّة التي يراها في الأفلام أو يقرأ عنها في الكتب والمجلات، وهو بالفعل قد بدأ يفضل تلك التكنولوجيا التي يرى آثارها حوله، إلا أن المشكلة العويصة هي أن هذا الإيمان لا يعدو عن كونه إيمانا لا عقلانياً طفليا (فتلك هي الطريقة الشائعة أصلا) وهي نوع من الإيمان الذي يسمح لصاحبه بأن يؤمن بالأشياء دون الخوض في تفاصيلها ودون دراسة وتحليل معطياتها، كل ما عليه القيام به هو أن يومئ براسه ويكرّس تشابهه مع الرهط قدر الإمكان، ويحفظ بعض الكلمات ليصبح بوقاً يضاف إلى ملايين الأبواق الأخرى التي تمرّر الكثير من الألحان الناشزة التي لا يعرف أحد عنها شيئاً. وهذا ينطبق على الدّين، وعلى السّياسة، والتنبؤ بالطقس، والعادات والتقاليد، والعلوم، والآداب، والحكم والفلسفة. إنها علاقة البئر بالبترول كما وصفها أريك فروم في كتابه أن "نملك أو نكون" To Have or To Be. يروق لي هذا التشبيه كثيراً :) ولا حاجة لذكر أن هذا  النمط من الأشخاص شائع جداً في مجتمعاتنا مع الأسف.

نرجع للتناقض القائم بين الفكر الديني-السّياسي والمنظومة التي يعتمدها في النظر إلى الأشياء، وبين الحرية التي سهلتالتكنولوجيا سبيلها على أكثر من وجه. معروف أن الحرية والتكنولوجيا ليستا وليدتا الفكر الديني ولا الفكر السّياسي، حيث أنه لا يستطيع أن يفكر بالحرية إلا المتخلص من قيود التشريع -وهذا واقع. ولا يقدر على صنع الطائرات ألا من تلقى تدريبا على ذلك. 

لا يستطيع رجل الدين أو السياسة أن يقوم بذلك حتى لو كانا صادقين، ببساطة لأنهما لم يدربا على هذا النوع من التفكير ومن التقنية. 

ويجد الفرد نفسه مضطراً لكبت مشاعره بخصوص هذا التناقض الجليّ ويميل للإيمان بهما معاً وبشكل يدعو للحيرة. فالدّين مرجع غير قابل للشك والحرّية حق (على ما يبدو) ولا يريد التفريط به والتكنولوجيا خلاصة أجيال من الشكاكين والمرتابين بكل شيء. 

الفكر الديني-السّياسي لا يتسطيع دعم الحرية لتناقضها الظاهر مع جوهر الأديان الذي هو تسليم النفس والبدن في طاعة الإله وأولي الأمر والكتب المقدسة ورفض مبدأ الشك الذي هو أساس الفلسفة والتفكير العقلي الرّياضي المنطقي الذي صنع التكنولوجيا وأرسى دعائم المنطق كعلم. مما يجعله (والكلام هنا عن الفكر الديني-السياسي) متناقضاً مع أبسط مبادئ الحريّة الفردية وأداة غير ذات فائدة بيد التقنين.

ومن جهة أخرى لم يقدم الدّين (بشكله الحالي وفهمه الرّاهن على الأقل)  للإنسان سوى الحروب والتقسيم والوهم. تماماً كما فعلت السياسة! في الوقت الذي كانت فيه فروع العلم والفن والفلسفة تحفر عميقاً في النفس البشرية وقوانين الفيزياء وعلوم النفس والمجتمع حاملة معها البشر إلى حقبة جديدة كلياً تقينياً وإدراكياً، لأنه كلما ازدادت الأشياء التي تعرفها عن هذا العالم كلما أصبحت في حاجة أقل إلى القواعد الثابتة والعكس صحيح؛ كلما ازدادت القواعد الثابتة في حياتك كلما قلت معرفتك بما يدور حقيقة في هذا العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق