17‏/09‏/2012

أضواء على العصر 2


لطالما كانت دراسة الدّين وأثره ودوره، والإنسان وسلوكه وتطبّعه، والتكنولوجيا وما تفعله دراسات ضرورية وماسة إذا أردنا أن نبني فهماً عميقاً للتجربة الإنسانية.

ولا فرق هنا بين ما يسمى بـ"الدول" "النامية" كالوطن العربي وفيما يسمّى ب"الدول" "المتحضّرة"على حد سواء. فإنسان اليوم أصبحَ أكثر وأكثر كتلة من التعقيدات التي تحتاج إلى فهم عميق ودراسة دقيقة ومواكبة حثيثة. ولكننا وبسبب الشلل النقدي والافتقار إلى التحليل، والعجز المادي المتوارث تعوّدنا أن لا نذهب لطبيب الأسنان حتى يصل الألم إلى عتبة لا تحتمل ويقلقنا طوال الليل ويكون قد فات الأوان على الإصلاح غير المكلف وغير الموجع وندخل في دوامة الألم بإرادتنا وتكاسلنا وخوفنا وغبائنا. 

المشكلة بالأصل ليست بيننا كبشر أو كـ "مواطنين" ننتمي لتيارات دينية وفكرية مختلفة فهكذا نحن منذ بدء الخلق وسنبقى مختلفين بأشكال عديدة حتى نهاية العالم (إذا كان ثمة نهاية)، ولكن المشكلة بالأصل بيننا من جهة وبين المؤسّسات العاملة بمنهجية على تقسيمنا وإفراغنا من مضاميننا الإنسانية والزجّ بنا على دولاب العبودية كالفئران!  المشكلة الوحيدة التي نلام عليها حقا هي تقصيرنا في خلق فرص للتواصل أكثر من وراء ظهر السّياسيين، وفي قدرتنا على تجاوز هذه الهياكل الاجتماعية المشلولة التي نصادفها في مواقع المجتمع والسّياسة لنصبح مجتمعاً قرر الخروج إلى المدينة كما يقول الدكتور الزيدي في كتابه الرائع "خارج الطائفة" ومن المدينة إلى فضاء الإنسانية الأوسع والأكثر نضجاً.


مشكلتنا ليست بين دين وآخر وطائفة وأخرى فنحن ناضجين كفاية لنستطيع التعايش ولم يكن  "البوط العسكري" هو السبب في احترامنا لبعضنا يوماً، بل إن ذلك نابع من إدراكنا أننا بالنهاية جسد واحد لم يخلق سدى ولا يمكن أن يعتبر أي من أعضائه غير ذي قيمة! والأهم من ذلك إنك لا تستيطع أن تتكلم عن كرامة ابن حمص السّنيّ مثلاً دون كرامة ابن حمص العلوي أو الشيعي أو الملحد، ودون الكلام عن كرامة ابن حلب أيضاً وهلمّ جراً.  لأن جميع الدماء حمراء، وعندما تنتمي للمدينة التي هي الفضاء الأوسع تخرج تلقائياً من الطائفة أو القبيلة الضيقة المحدودة، وفي المدينة ترى الإنسانية وجها لوجه، على أنها المجتمع الحقيقي الذي عليك الانخراط به والتفاعل مع حركته. وبنفس الواقع لا تستطيع أن تتكلم عن الفقراء وتقول مثلاً "فقراء المسيحيّين" لأن ذلك لا يمكن أن يكون حقيقياً ولا منطقياً أبداً، إنه شيء غير ذي قيمة ولا يجلب سوى مزيداً من الغباء والتخلف والسّيطرة بالمقابل. فالروابط الكثيرة التي بيننا أكثر بكثير من الاختلافات البسيطة التي تميزنا وهذا ما لا يتم التكلم عنه في الإعلام لأنه لا يمكن أن يخدم أولئك في رأس الهرم (وهم وموجودون في جميع الطوائف والدول والأعراق).

ما أتكلم عنه هنا ليس مشكلة أديان تماماً، ليس مشكلة مثيولوجيات أو أفكار مجرّدة ولكنها بالضبط مشكلة أفراد جاهزة للعبودية لأي سلطة تطرأ ومتقبلة دائماً لسياسات يتم استخدام الأديان فيها للتأثير على الناس مسلوبي الإرداة مسبقاً من أجل تمرير سياسات معينة والمحافظة على المجتمع على وضعه وخموله وتقسمه وتشرذمه مصارعين كل ما من شأنه أن يولد حركة ما لأن الحركة من طبع الحياة، وإذا دبّت الحياة بالناس ورأوا جمال الإنسانية في وجوههم، سيكسرون قيودهم ويبدؤون بالتقارب والتواصل غير عابئين بالسّياسيّن ورجال الأديان المتطرّفين، محققين السّعادة الحقيقية  في توحّدهم.

ونعود إلى الاعتقاد القديم البائد أن رجل الدّين لديه كل الأجوبة وأنه ممثل الآلهة المقدّسة على الأرض المدنّسة! وهو اعتقاد مضحك مردّه قصورٌ شخصي وعجز نسبي في شخصية التابع أو الشخص الذي يشعر بالانقياد لأي جهة كانت دينية أو حزبية أو ثقافية أو فنية إلى ما هنالك. وما أود فعلا الإشارة إليه هو أنَّ هذا الفرد يضع نفسه برسم العبودية لكل أحد ولكل فكرة ولكل استلاب هو جاهز للعبودية للفكرة ونقيضها ويعتمد خياره على أي الفكرتين كانت الأسبق، أو ربما على أيّ منهما ترافقت مع دعاية ناجحة واستطاعت أن تلمس التجاويف المتعبة لرأسه المُرهق. وهو على فكرة لا يكاد يتابع تفاصيل الدّين أو الحزب السّياسي الذي يدّعي "اتباعه" والولاء المطلق له، ولا يكاد يفهم شيئا من تفاصيله ودقائقه، بل يردد ليل نهار ما حفظه من طقوس أو أقوال مأثورة تتطور لتصبح عادات وشعارات رنانة بعيدة كل البعد عن الحركة المترافقة مع أي إيمان حقيقي. إنه السّلوك المحرَّف والوعي المُخترَق. وهذا ما يجب النظر إليه؛ الشخص نفسه وليس الرّئيس أو زعيم الحزب الذي يحكم، وليس إلى الشيخ المتطرف الذي يكفر هذا وذاك، أبداً، بل إلى عيني هذا الإنسان المرهق وقلبه الصغير.


وهنا يتبادر إلى ذهني السؤال التالي: هل لدى الدين القدرة على تغيير المجتمعات والمُضي بها نحو الحرّيات العامة والخاصّة ومزيداً من النضج؟ وهل يستطيع رجل الدّين فعل ذلك؟ هل درّب على ذلك في الأصل؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق