17‏/09‏/2012

أضواء على العصر 5


دعوني أطرح بعض الأسئلة عن حياتنا: 

- ما هو نوع التطوّر الذي حققناه اليوم؟ هل هو تطور تقني وحسب أم أنه امتدّ ليشمل نواح أخرى من حياة الإنسان ومجتمعه؟ هل استطاع الوصول إلى قلب الإنسان وإلى تركيبة المجتمعات بالتالي؟
- ألا تعتبر الجيوش الكثيرة بأسلحتها الفتاكة المرعبة دليلا لا يقبل الشك على تخلف إنسان العصر وهمجيته؟ أم أن ذلك شيء "طبيعي" ومرحلة لا بدّ منها؟
- ما الذي جعل المجتمع البشري يخطو كل هذه المسافات باتجاه الحريّة من سطوة الطبيعة والعمل وأرباب العمل بعد أن كان برسم العبودية لكل شيء ولكل أحد؟  أم أن افتراض هذا تفاؤل غير واقعي؟
- ما الذي غير الإنسان وجعل له هذه السّيطرة على العالم من حوله وفتح له آفاق العالم ليتعرف ويرى ويتواصل ولم يكتف بما وصل إليه بل ما زال يعد بالمزيد؟
- ما الذي حفّز على كل هذه التناقضات التي غيّرت سطح البحيرة الذي كان يبدو ساكناً فأصبح الإنسان يطرح الأسئلة الصّعبة؛ تلك التي لم يكن يجرؤ أحد على طرحها أو التفكير بها أصلا وبدأ يعيش جدياً ما كان مستحيلاً وخيالا علميا قبل خمس عقود أو أقل؟ هل هو الدين يا ترى؟ هل هي السّياسة التي جعلت كل ذلك ممكنا؟

للإجابة على هذه التساؤلات سيكون علينا أن نسمّي الأشياء بمسمياتها؛ فلم يتعدّ دور الدّين دور الضابط الاجتماعي الذي يحافظ على نماذج معينة من المؤسّسات الصّغيرة كالأسرة ودار العبادة ويحثّ على شكل معين من أشكال السّلوك الإنساني كالصّبر والخضوع، ويدعو إلى الخوف من الله وملائكته والقبول التام لكل ما يقوله ولاة الأمر على اختلافهم واختلاف الناس عليهم، مقدماً في ذلك الكثير من المواساة المعنوية للإنسان المغلوب على أمره في هذا العالم المتحرك والمتغير بجد، آخذاً بعين الاعتبارأن الحرية حمل ثقيل على الفرد وأنه سيحاول الفرار منها بالتأكيد لأنها تضعه أمام مسؤوليات عظيمة، تضعه أمام نفسه.

بالمقابل ماذا فعلت السياسة في هذا المجال وهل ساهمت حقاً في إحداث هذه التغييرات؟ وما الذي يملكه السياسيون من العلم والمعرفة بهذا العالم وبالمجتمع ليجعلهم يملكون السلطة؛ سلطة سجن الناس واعتقالهم، وتنفيذ الأحكام ومنها الإعدام بمن يخالف المنظومة، سلطة طبع المال والتحكم بحياة ملايين الناس وبسعادتهم وغناهم وفقرهم وحياتهم إلى هذا الحد؟ ما الذي عملته السياسة وما الذي بناه الساسة؟
 الجواب سهل، لم يبنوا شيئاً ذا قيمة! إنهم يعملون كواجهة قوية لنظام جائر يتحكم بخير الأرض ويبقي الحروب مستعرة ويفصل الناس في قطعان سلسة الإنقياد.

وماذا فعل العلم؟ وماذا فعلت التكنولوجيا صديقة الإنسان الأحدث وبنت عقله وتفكيره وخلاصة علمه وتجربته؟ أليست هي المسؤولة الأولى ويعود إليها الفضل في إنجازات اليوم؟ ألن يكون عليها أن تحمل الإنسان إلى المرحلة التالية. ننظر اليوم إلى الأمور حولنا من الباص إلى الطائرة والقطار والقلم والطاولة والنظارات الطبية والإبرة ونعتبرها مسلمات وننسى كم عانت البشرية قبل أن تُخترع هذه الوسائل بالتكنولوجيا وحدها، باسلوب البحث العلمي وليس بالدين ولا بالسياسة أو الأحلام.

التقدم التقني الذي يشهده كوكبنا مؤخراً  بدأ بتحرير الإنسان من العمل عن طريق مواصلة اختراع آلات جديدة بإمكانها أن تعفي الإنسان من الأعمال الصعبة و الروتينية التي تجعل منه غبياً متاجراً به عُرضة للسّوق وقوانينه اللا-إنسانية. وحررته افتراضيا من عبودية طال أمدها واختلفت أساليبها للطبقات الحاكمة فقد أثرت أجهزة الاتصال وخاصة الانترنت على إلغاء الفروقات الوهميّة بين طبقات المجتمعات الإنسانية وسهّلت الطريق أمام الناس ليعرفوا دقائق حياة بعضهم والمشاكل التي تواجههم مما أدى إلى إحساس متزايد في جميع أنحاء العالم بأن الإنسان كائن واحد وأن محاولات أدلجته وتقسيمه هي محاولات رذيلة مقصود منها السّيطرة والرّبح في نهاية المطاف. كما لم يعد الصّحافي هو كلب القبيلة الوحيد الذي ينذر بالأخطار، لقد بدأوا يتأكدون أن كل الدماء حمراء وكل الناس تشعر بالبرد في الشتاء ولذلك بدأت الثورة الاجتماعية على نحو واسع ولذلك علينا دعمها وعدم الحيادية في هذا.

مع نجاح التكنولوجيا هذا فقد استمر التخلف المعرفي والاستلاب الأعمى لمحطات التلفزة وسادت أنماط استهلاكية مؤذية في عالم يموت فيه حوالي 30 مليون إنسان كل عام من الجوع والأمراض المعدية. ولم يكد التقدم التكنولوجي يؤثر حقاً على الإنسان كجوهر فاعل، وذلك لغلبة هياكل الرّبح والسّيطرة وانسفال البشر إلى مستوى رعايا ومستهلكين أعزاء، بدلاً من ارتقائهم إلى مستوات أعلى وإحساسهم بالمسؤولية تجاه موارد الكوكب وتجاه بعضهم وأنفسهم.

ولذلك أقول أن الحل ليس في تبديل الرؤساء بغيرهم، وليس في الأسلحة والثورات المسلحة، وليس في التنظير من وراء شاشات الكومبيوتر أيضاً ولكنه في تفعيل المجتمع البشري وثورة الإنسان على كل ما يستعبده ويذله ويقيده ويجعل منه تابعاً غبياً عليه الخضوع والاستكانة له بمختلف الأشكال. فالثورة على الاستبداد والأنظمة الاستخباراتية يجب أن تترافق بثورة موازية على الأسلحة التي تقتلنا عند السياسيين والجيوش من كل الأطراف، والأسلحة التي تستهدف أطفالنا في المحطات اللامسؤولة التي تبث الفرقة والتقسيم كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم على مدار السنة، وهي تسوق بكل لا-مسؤولية لكائن بشري مريض ومليء بالعقد والأمراض لسبب هام وهو أن يحافظوا على خططهم في السيطرة وأن تبقى الثورة المدنية قليلة الفاعلية وغير ذات جدوى بما يتعلق بالـتأثير على المجتمع بحق. وماذا عن الثورة على الأسلحة التي يستعملها الاقتصاديون من عقوبات وسرقات واحتكاروديون واقتصاد مفتوح وتضخّم وإبقاء الناس تحت العبودية، بالإضافة إلى الأسلحة التي تستهدف العقول والنفوس على قنوات الإعلام التي تخفي الحقائق وتقضي على الفكر النقدي وتشيع ثقافة الاستهلاك والاستلاب وتدمير الإنسانية على ألسن بعض رجال الدين وأصحاب الغايات الرديئة.


لا يستطيع رجال الدين أو السياسة (وإن حاولوا بصدق) حلّ المشكلات الاجتماعية كالحريّة الفردية والجريمة والبطالة والسرقة والشلل التقني والتصحر في الأرض والعقول، والملل والرتابة وإيقاف الحروب وفض النزعات وكل ما يتعلق بمساوئ النظام الإقتصادي الحالي لأنهم ببساطة لم يدربوا يوماً على ذلك. فما يفعله الدين هو محاولة شق طريق نحو الله بعيداً عن الأرض ودنسها ونجاستها، وتقديم المواساة المعنوية لمن يحتاجها، وغاية ما يفعله السياسي هو وضع الميزانيات والسيطرة على المجتمع وإعلان الحروب!!

وكما أن "الجوهرجي" هو من يعرف الماس من البلور، كذلك الباحث الإجتماعي وأي مراقب يعتمد البحث العلمي أسلوباً هو من يعرف مدى السّوء الذي وصلت إليه حياتنا كبشرفي هذا العصر الذي توسمه العبودية وتميزه الحروب والمجاعات!!

علينا إذن أن نبحث عن جذور المشكلة بدلا من المزيد من القوانين التي يصنعها رجال الدين والسياسة؛ وبدلا من الانصياع الأعمى والترديد الببغاوي لأفكار القوم وما أكثر الأفكار وأما أكثرها شبهاً ببعضها وابتعاداً عما نحتاج.

سيكون علينا التوجه نحو الإنسان؛ نحو بعضنا من جديد لنكمل الرحلة بالاتجاه الصحيح، الاتجاه غير المؤطر، وغير المقونن، وغير المحدّد. سيكون علينا التوجه إلى أنفسنا من جديد وليس إلى السّياسيين ولا إلى رجال الأديان المختلفين على تفاسير ما قال الله هنا وما قال النبي هناك. السّاسة رجال مصالح وليسوا رجال أخلاق وإذا كنت ما زلت لا تعرف ذلك فأنت في ورطة كبيرة. ورجال الدين بشر مثلنا محدودون بمعارفهم وبأنفسهم في نهاية المطاف وإذا كنت لا تعرف ذلك فأنت معرّض لخطر الموت.

سيكون علينا التركيز على ما نستطيع فعله نحن كمجتمع مدني بعيداً عن السياسة والسياسيين، والعمل على تقويض سلطاتهم المطلقة، وإسقاط هذه القداسة التي تغلف وجودهم الزائف، والكفّ عن الانخداع بالتلفاز والصحف والاعتماد بدلاً عن أخبارهم على شبكة تواصل مكونة منا نحن وليس من أصحاب المصالح أنفسهم. في عالمنا لا نحتاج سياسيين يديرون لنا الأمور ولكننا نحتاج علماء وخبراء اجتماعيون وتقنيون... في عالمنا لا نحتاج الجهلة ومعميي القلوب ليقودوا مركبنا الحسّاس.
  

سيكون علينا اعتبار البشر كل البشر مجتمعنا الذي نهتم به فلا يمكن أن نقع في فخّ الدول التي رسمها السّياسيون على خرائطهم الباردة. علينا أن نؤمن بالتغيير الذي يغير هيكلية المؤسّسات بأجمعها ونؤمن بقدرتنا على فعل ذلك، لأننا نستطيع. وبما أننا نسعى لبناء مجتمع أفضل من جميع النواحي وحياة مستدامة تليق بالإنسان وكرامة الإنسان سيتوجب علينا أن نكون مقتنعين ومؤمنين ومطبقين للسلميّة التامة في كامل نشاطاتنا. هذا إذا أردنا التحرر حقاً وبناء أوطان حقيقية صالحة للتنفس.

وسيكون علينا التوجه الصّادق لدراسة موارد كوكبنا / منطقتنا بشكل جدّي، والعمل بناء على النتائج فلا نسأل كم يكلف هذا المشروع ولكن هل لدينا الموارد؟ لأننا ندير المجتمع حاليا بالعكس بسبب هياكل الربح التي شلت التكنولوجيا وأدت إلى تراجع الإنسان والمجتمع والحضارة والديمقراطية لمن يفكر كثيراً في الديمقراطية. ما هوَ المال إلا أداة مدروسة لتقييدنا وليس لمصلحتنا، أداة لضبط المجتمع والسّيطرة عليه كما هو الحال الآن... فنحن نرزح تحت رحمة احتلال حقيقي لمدننا ومشاعرنا وإراداتنا، نحن نعيش في ندرةٍ مصطنعة، وفي تضخم للعملة مدروس وفي كنف ورعاية أكبر مصنعي الخراب والأسلحة والأمراض في العالم.. فل نتوقع منهم الخير؟ أم نبحث عن مسلك آخر ونقرأ بوادرهُ تلتمع في كل مدن العالم التي تغص بالكائنات البشرية الطامحة للتغيير؟ وتذكر... إذ نفعل ذلك نحن لا نقوم ببناء شيء جديد، لا نفرض قانوناً جديداً، ولا نحدث تغييراً في بنية المجتمع... إننا نتماشى مع التغيير الطبيعي في المجتمع والذي هو شيء من أمور الحياة نفسها. في الماضي كان الإنسان يعيش على الجمع والالتقاط ويعيش في الكهوف، ثم تطور البشر في عصر الزراعة، ثم تطوروا مرة أخرى في الثورة الصناعية وما حملته من تغييرات أثرت عميقاً في شخصية الإنسان وقدراته وإمكانياته. وهكذا، فإن هذه العملية لن تتوقف عن شيء ثابت، ولن نتوقف عن اكتشاف الأفضل والنضج أكثر. ولمن يقول أن هذا وهم وأن هذا مجرد خيالات أنتجها عقل منظرٍ، أقول أن التنظير هو الإصرار على ملاحقة شبح الديمقراطية في عالم لا تتوفر فيه أدنى مقومات الديمقراطية! التنظير هو في محاولة التقاط بعض أنفاس الحرية في عالم مبني رأساً على عقب ونحن نعرف الفاعلين ونعرف طريقة البحث، فلماذا لا نمشي بالاتجاه الصحيح؟ ومتى كانت الطرق القصيرة والسهلة هي الصّحيحة دائماً؟

الأمر عائد إلينا، إما أن نرضى بما يجري من خداع أو أن نحاول جهدنا ولا نعطي بالاً لفلاسفة السقوط والرضوخ ونهتم حقاً بهذا المجتمع. هكذا أستطيع الآن تلخيص الآمر.

                                                                                                                            قد يتبع يوماً ما :)
مراجع للبحث والتوسع:

-   جاك فريسكو مخطط ومهندس اجتماعي.
- "الخروج من الطائفة" للباحث الدكتور علي الديري.
- "فن الحب" و "أن نملك أو نكون" للمحلل النفسي والاجتماعي أريك فروم.
- كريشنا مورتي / الكثير من المقاطع المصوّرة والمكتوبة متوفرة على النت.
- "الهروب من الحرية" أريك فروم.

للمراجعة أيضاً أنصح بالتالي:
- روح العصر Zeitgeist  فيلم وثائقي من ثلاث أجزاء.
- الازدهار The Thrive متوفر على النت بنسخة مدبلجة للعربي.
- اعترافات قاتل اقتصادي كتاب من تأليف John Parkins
- Modern Money Mechanics كتاب في كيفية صنع المال والقوانين الظابطة له.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق