03‏/06‏/2012

أفكارك ليست هي أنت …!


المعوق الأكبر والأخطر أمام التنوير الحقيقي هو أفكارك :

حسناً ولنبدأ من حيث يجب أن نبدأ هذه الرحلة ، بالتعرف على ماهية الاستنارة الحقيقية .
ماذا نعني بالاستنارة ؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال ، نستذكر موقفاً عرض لحكيمٍ من حكماء عصورٍ سلفت ، ولنستمع لها بلسان هذا الحكيم :
كان هناك شحاذٌ يستقر عند رصيفٍ من أرصفة شارعٍ في مدينةٍ كبيرة ، كان يجلس في ذات المكان منذ ثلاثين عاماً وقد فرش قبعته أمامه وجلس منتظراً إحسان المحسنين ، وكلما اقترب أحد المارة رجاه بضِعةٍ أن يعطف عليه بالقليل من النقود ، فأما يصد وأما يكرم بالتافه من العملة …!
- اقتربت منه فهتف بي : عملةٌ صغيرةٌ تسد رمقي يا سيدي …!!
- ليس لدي ما أنفحك إياه يا رجل لأني غريبٌ في هذه الأنحاء ولا أملك مالاً ( هتفت به ، ثم عقبت ) لكن ما هذا الذي تجلس عليه بربك …! ( وأشرت إلى صندوقٍ عتيقٍ كان الرجل يستقر عليه بجسمه النحيل ) …!
- ماذا … أي صندوق … ها… تعني هذا … لا شيء … ليس به شيء على الإطلاق ، إنه مجرد صندوق عتيق …!
- وهل نظرت إلى ما فيه ( هتفت به …)
- كلا… ولماذا يجب أن أنظر فيه وأنا أعلم إنه ليس فيه شيء …!
- ومن أين لك أن تعلم وأنت لم تنظر ، ألق نظرةٍ على داخله ، فقد يكون فيه شيء مفيدٌ لك …!
وفعل الرجل ، ولدهشته … كان الصندوق مملوءٍ بقطع نقد كثيرة .
تخيل ، عاش ثلاثون عاماً مع صندوقٍ مملوء بالذهب ، ومع ذلك فإنه لم يجرؤ يوماً على فتح الغطاء للتعرف على كل هذا الثراء الذي لديه …!
فماذا تتخيل أنت وأنا إننا يمكن أن نجد في دواخلنا ، لو إننا حاولنا مرّةٍ النظر إلى الداخل …!
حسناً سترّد علي بحنق ، ولكنني لست بشحاذٍ ولا أريد التفتيش في أوراقي القديمة كأي تاجرٍ مفلس .
لا يا صديقي ، بل نحن جميعاً شحاذون ، إن لم نكتشف ثراء الداخل ، وهو أسمى وأعظم من الثراء المادي إذ هو صفاءٌ روحيٌ خالص وسعادةٌ منقطعة النظير .
ربما تكون أنت وأنا والكثيرون منعمون بثراءٍ ماديٍ ورغدٍ في العيش ، ولكن لا شك إنك تفتقد الكثير ، بل الكثير جداً مما لا يمكن للثروة المادية أن تحققه .
أنت وأنا وكثيرون نبحث في الخارج عن الحب ، المتعة ، الرضا ، تأكيد الذات ، الشعور بالأمان .
ولكننا لا ننال هذا الذي نسعى إليه رغم ثرائنا المادي …!
لماذا …؟ لأننا نبحث في المكان الخطأ ، إذ إن هذا الذي نبحث عنه موجودٌ فينا … عندنا … في جوهرنا … وهو أكبر من كل ما يمكن لهذا العالم الخارجي أن يهبنا …!!
مفهوم الاستنارة الروحية ، قد بتوهمه البعض جملة تطبيقات لما هو فوق الطبيعي من أنشطةٍ تأمليةٍ تصوفيةٍ قاسية أو ما أشبه ، وهذا ليس صحيح وليس بالضروري على الإطلاق ، والمسألة أبسط بكثيرٍ مما تتصور .
إنها تعني ببساطة حالة من الشعور بالوحدة مع الكينونة ، أو بمعنى أدق وحدةٌ شعوريةٌ بأنك موجود ، أن تشعر ولا نقول تفكر ، بل تشعر بوجودك ، بثقل هذا الوجود ووزنه وأهميته …!
حالة الإحساس بالكينونة الذاتية يؤدي بدوره إلى الارتباط الوثيق بهذا الذي لا يمكن أن يُنال أو يرى أو يُلمس ، جوهرك الحقيقي ، خارج حدود أسمك ورسمك وهويتك الاجتماعية ووضعك الفيسيولوجي في هذا العالم الفيزيقي المادي .
وإذ نقول أن ترتبط بجوهرك الحقيقي ( الروحي ) فإنك بهذا ترتبط بالجوهر الكوني العام ، بجواهر المخلوقات والجمادات ، في آصرةٍ سريةٍ خفيةٍ لذيذة ، تهبك سعادة خالصة وقدرة فائقة على التأثير في الخارج وفي تغيير مسارات قدرك …!
هي ذات الحالة التي وصلها متصوفة الشرق أو الروحانيون في اليابان والصين والهند .
ما يعانيه إنساننا في العصر الحاضر ، هو شعورٌ بالانفصال عن الخارج ، بل حتى عن أقرب عناصر هذا الخارج ، أمك وأبيك وأبنائك وزوجتك وأقرب أصدقائك وجيرانك .
وهذا ما يؤدي إلى التعاسة نتيجة سوء الفهم وسوء الظن وتنامي الإحساس بالانفصال نتيجة الفروق في المعتقدات والميول والرغبات ، وبالتالي يتحول سوء الظن وسوء الفهم إلى الكراهية والاقتتال ، فيزداد الانفصال أكثر فأكثر ، ويزداد بالنتيجة الشعور بالكآبة والخوف والقلق و…و…الخ .
الانفصال عن الخارج أو الشعور بالانفصال عن الخارج ( والذي هو غالباً زائف، إذ هو مجرد وهم ) ، هو محصلة لانفصالك عن ذاتك الحقيقية ( جوهرك الروحي ) الداخلي السامي ، الذي هو أكبر من شكلك ووزنك وأسمك ونسبك وهويتك الاجتماعية ، وحيث تتعرف على تلك الذات تختفي المسافة بينك وبين الخارج ، وتراك منسجماً غاية الانسجام ومتمكناً من نيل كل ما تتوق له من ثمار التواصل الحُبي الشفيق مع عناصر هذا الخارج من أحياء وجمادات .
يقول عظيم الهند ( بوذا ) في تعريفه للاستنارة الروحية ، إنها ( نهاية المعاناة ) .
ليس في هذا القول ما هو فوق الإنساني ، ولكنه جوابٌ يبعث على القلق ، فماذا يتبقى حيث لا يبقى ألم ومعاناة .
هذا ما لا يجيبنا عليه ( بوذا ) ، ولكن صمته يقول إن علينا أن نبحث عن الجواب ، بل إن اعتماده لهذا التعريف السلبي ، يقصد منه أن لا نأخذ الجواب مأخذ الجدّ فنؤمن به أو أن نعتبره مفهومٌ ميتافيزيقي للتحرر الذاتي من الألم من خلال ما هو فوق إنساني ، وبالتالي وحيث نستكين لمثل هكذا إجابات نتكاسل عن الفعل التأملي الناشط للوصول إلى ما وصل إليه ( بوذا ) من استنارة .
قد يسألني سائل ، وما هو وجودي الحقيقي أو كينونتي الحقة التي أردتني أن أشعر بها وأمتلئ بها لكي ما يمكنني أن أشعر بالتواصل مع الجواهر الكونية فأتحاشى الانفصال الذي يسبب الألم بأنواعه المختلفة ؟
وجودك الحقّ ، هو ذلك الجوهر الوجودي الأزلي الحي خارج حدود كيانك الفسيولوجي وحجمك وشكلك ولونك وأسمك وجنسك .
كُل تلك التمظهرات الفكرية والفسيولوجية ، مجرد مادة للولادة ثم الموت ، أما الجوهر فهو ما لا يلد ولا يموت ، لأنه دائم الوجود دائم الكينونة …!
هذا الجوهر ، لا يوجد في الخارج حسب ، بل هو في الداخل ، فينا … في كل واحدٍ منّا ، وهو ما يجب أن نشعر به ونؤمن به ولا أقول نفكر فيه ، لأنه لا يمكن الوصول له بالتفكير العقلاني العادي ، بل يكفي أن نعيه ونشعره ونمتلئ به .
طيب كيف يمكن أن أتواصل مع هذا الجوهر العميق الأزلي إن لم أفكر به …؟
لا … لا يمكن أن تصل له عبر التفكير به بعقلك الذي هو نسيج كل الخيوط التي سقطت من مغزل المجتمع من ممارسات وأقوال وأفكار وأنماط سلوكٍ … نعني ما تلقيته في حياتك من معلميك وأبويك ومجتمعك وأصدقائك و…أعدائك ..!
كل هذه هي معارفٌ عمليةٌ مفيدة في الاستمرار بالعيش والنجاة من الموت الباكر أو الفقر أو السجن أو المرض ، أما التعرف على الجوهر الروحي فيتم عبر الخلود إلى السكون التام وهدهدة العقل وتنويمه لكي ما يمكن للوعي أن يلج المساحات الممنوعة على العقل الاجتماعي بوعيه العادي الواطئ التردد .
بالتأمل العميق والخلود إلى السكون الخالص ، يمكن لنا أن نتعرف على جوهرنا الذاتي الحقيقي الذي هو جزءٌ لا يتجزأ من الوحدة الكونية الجوهرية الشاملة التي تجمع كل العناصر في واحد .
لا تحاول أن تفهم وجودك لأن الفهم عملية عقلية لا يمكن أن تصل بك إلى شيء ، بل يكفيك أن تحسْ … تشعر بوجودك في لحظتك هذه وفي مكانك هذا …!
وتلك هي الاستنارة الحقة … أن تعي في لحظة سكونٍ خالصْ … هذه الكينونة التي تمتلكها في هذه اللحظة التي أنت فيها …!


***

قد يسأل سائلٌ ، وما الذي يعيق إمكانية نيل تلك الومضة البهية من الشعور بالجوهر الذاتي الذي هو جزءٌ من الوحدة الكونية ؟
بأن تتماهى مع عقلك ، وتؤمن أو تتصور أن وجودك يكمن في قدرتك على التفكير ، كما في القول الديكارتي المأثور والخاطئ تماماً الذي يقول " أنا أفكر إذن أنا موجود "…!
إننا وحيث نتوهم إن عقلنا هو دليل وجودنا وهو الحامل لكل الحلول لإشكاليات هذا الوجود المادي اليومي ، فإننا وبحكم العادة نستعمل عقولنا طوال الوقت في تيار لا ينقطع من الصور والأفكار والحلول والمقترحات والأحلام و…و…الخ .
عقولنا تشتغل طوال الوقت وبلا استراحة ، وهذا ما يفقدنا فرصة التعرف على جوهرنا الوجودي الحقيقي المضيء الذي لا يمكن أن يرى بعين العقل .
إننا نتوهم إن هذا هو الأمر الاعتيادي والذي يجب أن يكون ، وهذا تصورٌ خاطئ تماماً .
وللحديث بقية في أعدادٍ أخرى من هذا الموقع الرحب .



* ترجمه عن اللغة النرويجية
   كامل السعدون


* تأليف آيكارت تول ، وهو لم يكن قبل عشرون عاماً إلا رجلا محبطا مثقلاً بالهزيمة والكآبة.
فجأة ينهض في داخله ذات ليلة ، كائنٌ جديدْ يستحثه على البحث عن ضوءٍ في نفق الروح ، لا في الخارج ، بل في جوهر الذات . وإذ يتمعن الرجل ويستقصي ، يكتشف منابع قوته الروحية التي استحالت بعد بضعة أعوامٍ إلى قوةٍ وصفاءٍ شديدٍ أحال صاحبه إلى هذا المعلم الروحاني العميق التفكير الواعد بكنوزٍ روحيةٍ عظيمةٍ نكتشف بعضها في هذا الكتاب الرائع .
نشر الكتاب للمرة الأولى تحت عنوان The Power of Now : A Guide to Spiritual Enlightenment وذلك في عام 1997 وفي أرقى دور النشر في كندا ، وتكرر نشره مرّات عديدة في إنجلترا والولايات المتحدة وترجم إلى أغلب لغات العالم الحية ، ومنها اللغة النرويجية والتي عنها ترجم هذا الكتاب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق