15‏/06‏/2012

جدي الأكبر والشاطئ البعيد...

سأحكي لكم قصّتي مع الوُصول
ومع جدّي الأكبر
الذي مات وتركَ لي ابريق فخارٍ ورحلة



مع أني كدتُ أطيرُ من الفرح عندما وجدتُ ذلكَ الشاطئ أخيراً
فقد انتابني شعورٌ مباغتٌ بالخيبة!!

أمضيتُ عمري أبحثُ عنهُ بلهفة
عيناي تسبقاني إلى كل حبّة ماءٍ أخرى
وقلبي يخفقُ كلما هبّ النسيم

أمزجُ ألواناً كثيرة

الكثير من الكستناء
وبضعُ شجيراتٍ وظل
الشمسُ الحارّة تنقي الجسدَ من الهموم
الموسيقى تتردّد في فضاء رحب
النيرانُ المشتعلة تعلو وتخبو كصوت
المحاربونَ وقد تعبت إنسانيتهم من الحروب وأنهكت قلوبَهم الغارات
يقتنعون بالحياة ويفتخرون بها
يجلسون لاحتساء قليلٍ من الكاكاو
وهم يقبلونَ نساءهم بشغف
في قلوبهم تتوهّج الحياة
ومن أعينهم يتدفقُ النور
نورٌ يستطيع مجابهةَ الظلم
بكل رأفة

فجأةً وصلتُ
هذا هو الشاطئ أذن
لطالما سمعتُ عنه في طفولتي وشبابي

ابتدأ الأمرُ بجدِّي الأكبر منذ آلاف السّنين
كان رجلاً تقياً لا يأكل إلا من حرث الأرض
وقبل أن يفارقَ الحياة أمام ثمانية من أبنائه الذكور
أمسكَ إبريق الفخار العتيق وشربَ منه جرعةُ من الماء البارد
وخاطبهم قائلاً:
"من أرادَ الوصولَ فليقصد الشاطئ البعيد"
ثمّ أردف:
"لا أمان إلا في الشاطئ البعيد"
ومات

من وقتها فهمَ أجدادي أنّ الوُصولَ ضروريّ في أية رحلة
بل إن الرّحلةَ تهدفُ أساساً إلى الوصول
كل واحدٌ من أجدادي بعدهُ قامَ برحلة البحث هذه
كلهم كتبوا عن هذا الشاطئ
كلهم أشادوا بهذا الشاطئ
كلهم دعوا أحفادهم للوصولِ إلى هذا الشاطئ
ولو كلفهم هذا عمراً كاملاً
وها أنذا اليوم... آخرُ الواصلين

على ضفافه توقفتُ لوهلة
شعرتُ بالمرارة في حلقي
ومن عينيّ تسرّبَ خيط من الملل
رأيت كيف يعيش الناس على الشاطئ بأمان واضح
ولكن البَريق لسبب ما لم يجد طريقهُ إلى أعينهم
كانَ الأبناء والبنات يلدون آبائهم وأمهاتهم
والأفكارُ نفسها تتكرّر بشكل رتيبٍ وكئيب
وفي مكان عالٍ استطعت أن أرى تمثالاً كبيراً لجدّي
اقتربت منه ونظرت لكلمات صغيرة منقوشة بعناية بماء الذهب
"لا أمان إلا في الشاطئ البعيد"

كانت هذه العبارة سببَ رحلتي إلى هنا ذات شتاء
وها أنذا وقد وصلت
فماذا عسايَ أفعلُ الآن؟
لقد بدأت أفتقد همّتي
أفتقد صوتي ودهشتي الدائمة
فليس هناك ما هو أكثر كآبةً من الوصول
عندما تغلق الباب على نفسك
ويصبحُ كلُّ شيء روتينياً وبليداً 

شعرتُ بالحنين إلى كل تلك الرّحلة التي قطعتها
شعرت بالحبّ تجاه كل الشواطئ الأخرى التي مررتُ بها
وقرأتُ فيها لافتات مختلفة
تشبهُ عبارة جدّي لدرجة التطابق
شعرتُ أن عليّ أن أستطعم ملحَ البحر في حلقي
ورملَ الصَّحراء على لساني
وحرارةَ الأسئلة اللاذعة في قلبي مرّة أخرى
فقرّرت أن أكمل الرحلة

لم يكن هذا مكتوباً في الكتب
ولم يذكر جدّي الأكبرشيئاً عما وراء الشاطئ البعيد
ولكن قلبي لم يتوقف عن الضّجيج في أذني
"الوصولُ جائزة الكسالى
والشواطئ للمتعبين"
فأدركتُ أنني أيضاً أفضّلُ الحياةَ على الرُّكون
والحريّة على الأمان
أريدُ رحلتي صاخبة مفتوحةً على الاحتمالات
ففي جسدي الكثير من الحرارة
وفي قلبي لا تخفتُ نارُ الحبّ

نظرتُ في عينيَّ
وكنتُ سعيداً
الإنهاكُ لن ينالَ منّي
وجسدي ينبض بعنفٍ بهذه الحياة
أتدفّقُ كماءٍ لا واديَ يحضنه
ولا أحتاج كتبي بعد اليوم
لا أحتاجُ أي قوانين وأيّ شرائع وأي شواطئ
لا أحتاجُ هذا الشاطئ ولا أي شاطئ آخر
ما أحتاجه طوعَ بناني الآن
أنا هكذا أستطيع الرّؤية بوضوح

من حينها وأنا مسافرٌ
أجتاز المسافات بغبطة
وأشعرُ بالحبِّ يقدحُ من عينيّ كل إنسان ألتقيه
وهكذا كان الوُصولَ وهمٌ آخر
نلجأ إليه عندما نعجزُ عن المتابعة خطوة أخرى باتجاه الحياة
وهذا القلب ينبضُ إذ نستمع له
ويخرس ويجفّ عندما نصيخ السّمعَ لكلّ الأصوات
ونتركهُ مجمّداً في هذا العالم
حيث يتراكضُ الكثير من الناس بعيداً
متمنّين الوصول

جدّي الأكبر مات
وتركَ لنا فكرتهُ عن الوصول
وإبريقاً رائعاً من الفخار

شيء واحدٌ آخر

رأيت أمّي تنظرُ إليّ وابتسامة ملائكية على وجهها الجميل
كانت توقدُ النار لتصنعَ لي زوّادة
أمّي التي تفهمني جيداُ وتستطيع سبرَ أفكاري
وقراءة صمتي
لم أرفض تلك الزوّادة من حبيبتي
فأنا أحتاجها كثيراً
وأحبُّ أن أشعرَ برائحةِ يديها في رغيفي المُقمّر
وليس عندي من مشكلة في أن أنتظرها ثمانينَ عاماً حتى تنتهي
لأني أشعر بالفرح والمعرفة يغمرا كياني

وأنتِ... ألن تنامي قليلاً؟
أرى على عينيك الإرهاقَ والقلق
عيناك حمراوان
وأنفك الصّغير أصفرٌ كالأبله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق